وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
من 79 سنة.. الاحتلال الفرنسي يقتل 45 ألف جزائري والتهمة «رفع العلم»
أحيت الجزائر اليوم الوطني للذاكرة، والذي يخلد ذكرى مذابح 8 مايو 1945، التي ارتكبها الاحتلال الفرنسي، وأظهرت الوجه البشع لسياسة الإبادة الجماعية التي اتبعتها فرنسا الاستعمارية، لتشكل منعطفا حاسما في مسيرة الشعب الجزائري وثورته من أجل الاستقلال والحرية.
ووقعت مذابح 8 مايو 1945، في نفس اليوم الذي احتفلت فيه فرنسا بانتصار الحلفاء على ألمانيا النازية وانتهاء الحرب العالمية الثانية، وتوقيع الهدنة، وفي ذلك اليوم خرج عشرات الآلاف من الجزائريين إلى شوارع العديد من المدن ومن بينها سطيف وخراطة، في مسيرات سلمية تطالب باستقلال الجزائر، الذي سبق ووعدت به باريس، ولكن الاحتلال الفرنسي رد بدموية ووحشية، وقتل حوالي 45 ألف شهيد.
وزيادة في إجرامه، وللتغطية على تلك المذبحة البشعة، اعتمد جيش الاحتلال الفرنسي على أفران الجير للتخلص من جثث الشهداء، كما حمل العديد من الأشخاص في شاحنات لإلقائهم بالأودية، أو نقلهم إلى خارج المدن لإعدامهم ودفنهم في مقابر جماعية.
انطلاق مسيرة 8 مايو
وفي يوم 7 مايو 1945، انتهى أحباب البيان والحرية، تلك الحركة التي أسسها فرحات عباس في 14 مارس 1944 للمطالبة باستقلال الجزائر، من استعداداتها للمسيرة المقررة في 8 مايو، والتي ستخرج محتفلة بانتهاء الحرب العالمية الثانية والانتصار على ألمانيا النازية، وفي الأساس المطالبة بتحرير الجزائر من الاستعمار وتذكير فرنسا بوعودها السابقة بمنح البلاد الاستقلال بعد انتهاء الحرب.
وقررت سلطات الاحتلال الفرنسية السماح بتنظيم المسيرة، ولكنها اشترطت عدم رفع أي أعلام باستثناء الأعلام الفرنسية فقط، ووجه نائب الحاكم بيترلان تحذيرا بعدم رفع أعلام الجزائر، بينما كان يقول لمساعديه: "أشعر أن شيئا غير عادي ينسج في الخفاء".
وبالفعل، تجمع آلاف المتظاهرين عند السابعة صباح يوم الثلاثاء 8 مايو 194، بالقرب من مسجد المحطة في مدينة سطيف، والمسمى حاليا مسجد أبا ذر الغفاري، واستمر توافد المتظاهرون من كل أحياء المدينة وقراها والمشاتي، ومما ساعد على ذلك، أن يوم الثلاثاء كان يصادف يوم سوق سطيف الأسبوعي.
وعند الساعة الثامنة والنصف صباحا، بدأت المسيرة في التحرك، وكان في المقدمة حوالي 250 شابا من الكشافة الإسلامية الجزائرية، مرتدين الزي الرسمي، ومنتظمين في صفوف، وعلى أعناقهم أوشحة تحمل اللون الأخضر والأبيض والأحمر، وقرروا تعيين زميلهم سعال بوزيد لحمل العلم الجزائري.
حمل علم الجزائر
وانطلقت المسيرة لتضم في صفوفها حوالي 20 ألف متظاهر، وتصل إلى تقاطع شارع جورج كليمونصو، والمسمى حاليا بشارع 8 مايو 1945، ومع تحركها ازدادت الأعداد الملتحقة بالمسيرة، بينما كان شباب الكشافة يرددون نشيد "من جبالنا"، مع رفع عشرات اللافتات التي تحمل شعار "تحيا الجزائر حرة مستقلة" و"تسقط فرنسا" و"حرروا مصالي".
ووصلت المسيرة الى مكان مقابل لمقهى فرنسا، وكانت المسيرة تستعد للاتجاه الانعطاف ناحية النصب التذكاري لضحايا الحرب العالمية الثانية لوضع إكليل من الزهور، كما نص طلب ترخيص المسيرة، وكان يراقبها ضابطي شرطة الاحتلال الفرنسي "اوليفيري" و"فالار"، في سيارة يقودها محافظ الشرطة "تور" ومفتش آخر اسمه "هاس"، ولكن هؤلاء لم يتحملوا رؤية العلم الجزائري، فطلبوا من سعال بوزيد ووجهوا إليه أمرا بإنزال العلم.
وحاول ضابطان انتزاع علم الجزائر من يد الشاب سعال، الذي تمسك به بكل قوة، حتى سقط على الأرض، فجذبه ضابط وأطلق عليه الرصاص، ليلفظ أنفاسه بعد ساعة في المستشفى، لتسود حالة من الصمت الرهيب بين الآلاف المشاركين في المسيرة، ولم يقطعه إلا زغروطة طويلة أطلقتها امرأة كانت تراقب المشهد من شرفة منزلها.
ومثلت تلك الزغروطة شرارة لحركة المتظاهرين وتدافعهم وركضهم في جميع شتى الأنحاء، في الوقت الذي سمعت فيه طلقات نارية متقطعة للمسدسات ودفعات من الرشاشات الآلية، ليبدأ الاستعمال الفرنسي في تنفيذ مذابح 8 مايو.
تفاصيل مذابح 8 مايو 1945
وبعدها بدأت حالة جنونية من القمع الفرنسي الهمجي وغير الإنساني، مع مطاردة كل ما هو جزائري، واستمر الاحتلال في أعماله الانتقامية في اليوم التالي ولمدة أسابيع بعدها في مناطق سطيف وخراطة وقالمة، وارتكبت خلالها العديد من الجرائم وصلت إلى حد تدمير قرى كاملة، أو حرقها أو قصفها، كما أحرقوا العديد من العائلات أحياء.
واستمرت جرائم الاحتلال الفرنسي بحق المدنيين العزل حتى يوم 24 مايو، ليسقط ضحية لها 45 ألف شهيد، قتلوا برشاشات الجنود الفرنسيين، وقذائف المدفعية، وقنابل الطائرات، وخنقا بالدخان في الكهوف والمخابئ التي احتمى داخلها النساء والأطفال والشيوخ، والتي عرفت بـ مذابح 8 مايو.
اندلاع ثورة التحرير الجزائرية نوفمبر 1954
ومهدت مذابح 8 مايو 1945، الطريق لاندلاع ثورة التحرير في نوفمبر 1954، والتي عرفت بثورة المليون ونصف المليون شهيد، ولم يكن يعلم الضابط الذي أطلق الرصاص على سعال بوزيد حامل الراية الجزائرية، أن تلك الرصاصة التي أطلقها، كانت الشرارة التي فجرت ثورة التحرير بعدها بـ 9 سنوات.
وحتى الآن، مازالت فرنسا ترفض الاعتراف بشكل رسمي بمسؤوليتها عن تلك المذابح، وخرج العديد من المؤرخين والمثقفين الفرنسيين لينتقدوا الصمت الرسمي على مذابح 8 مايو 1945، ويقول المؤرخ أوليفييه لوكور جراندميزون إن أبناء الضحايا ما زالوا ينتظرون اعتراف فرنسا بتلك الجرائم".
كما يقول المثقفون فرانسوا جيز وجيل مانسرون وفابريس ريسيبوتي وآلان روتشيو، في مقال مشترك، إن السلطة العليا في فرنسا ما زالت لديها أشياء كثيرة تقولها حول مذابح 8 مايو 1945 في الجزائر.
كما طالب المؤرخ الفرنسي أوليفييه لوكاور جراندميزون، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالاعتراف بمذابح 8 مايو 1945 باعتبارها جرائم ضد الإنسانية، وقال: "يجب أن يعترف بشكل واضح وصريح، بأن الجرائم التي ارتكبت كانت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية كما تنص على ذلك المادة 212-1 من قانون العقوبات الفرنسي".
الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون
وقال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إن ملف الذاكرة بين الجزائر والمستعمر السابق فرنسا لا يقبل التنازل والمساومة، مطالبا معالجته بجرأة لاستعادة الثقة بين البلدين.
وأضاف تبون بمناسبة اليوم الوطني للذاكرة الذي يصادف ذكرى مجازر 8 مايو 1945: إن ملف الذاكرة لا يتآكل بالتقادم أو التناسي بفعل مرور السنوات، ولا يقبل التنازل والمساومة، وسيبقى في صميم انشغالاتنا حتى تتحقق معالجته معالجة موضوعية، جريئة ومنصفة للحقيقة التاريخية، كما أؤكد الاستعداد للتوجه نحو المستقبل في أجواء الثقة، وأعتبر أن المصداقية والجدية مطلب أساسي لاستكمال الإجراءات والمساعي المتعلقة بهذا الملف الدقيق والحساس".
وأكد الرئيس الجزائري أن القضية تندرج ضمن عدة قضايا أخرى مازالت عالقة، أبرزها استرجاع رفات الشهداء الأبرار، وملف المفقودين، واسترجاع الأرشيف، وتعويض ضحايا التفجيرات النووية في الصحراء الجزائرية.
تأريخ الفترة الاستعمارية الفرنسية
وتعمل لجنة مشتركة من عشرة مؤرخين، خمسة من كل الجانب الجزائري ومثلهم من الفرنسي، على النظر معا في الفترة التاريخية من بداية الاستعمار الفرنسي عام 1830 حتى انتهاء حرب الاستقلال سنة 1962.
وتعمل اللجنة منذ عام 2022، وعقدت العديد من اجتماعات في العاصمتين الجزائر وباريس، كان آخرها في فرنسا شهر فبراير، وتم الاتفاق على استرجاع كل الممتلكات التي ترمز إلى سيادة الدولة، وهي تتعلق بالأمير عبد القادر بن محيي الدين (1808-1883)، الذي يعتبره الجزائريون مؤسس الدولة الحديثة وبطل المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي.