
الحقيقة كنت أظن أنه حمالا للأوجه مصداقا للقول المنسوب إلي الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، دون محاولة بذل أي عناء للتفكير في معطيات الكلمة وماهياتها ، وكنت أظن أن فهم القرآن على الأوجه المختلفة هو حكرا على علماء الأمة وأصحاب المذاهب ولنا أن نتبع فهم أي منهم ، ثم بعد إنضمامي للمدرسة الفكرية التي تعني بالبحث اعتمادا على السياق القرآني ، فلا ارى ان القرآن حمالا للأوجه ، لأن القرآن هو عين الحقيقة والحقيقة لها وجه واحد فقط فيكون للقرآن وجه واحد ، وكان دليلي من القرآن نفسه قوله سبحانه وتعالى (وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) الأنعام 153، فالصراط المستقيم واحد والسبل كثيره ، وقوله سبحانه وتعالى (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق الا الضلال فانى تصرفون) يونس 32 ، وهذا الرأي هو الغالب لدى الكثيرين .
ولكن عدت وسالت نفسي السؤال ذاته: هل القرآن فعلاً "حمَّال أوجه"؟ أى ترى فيه الرأى ونقيضه؟ وترى فيه الاختلاف فى الرأى الواحد؟ وبحيث تنتقى الرأى الذى تختار ويكون لمن يخالفك فى الرأى أن ينتقى هو الآخر من آيات القرآن ما يؤيد وجه نظره؟ وهل فعلاً قال الإمام "على" هذا الكلام عن القرآن؟ إن ما نتصوره عن الإمام على بن أبى طالب وملازمته للنبى محمدعليه الصلاة والسلام يجعلنا ننكر نسبة هذه المقالة له، لأنه لا يمكن له أن يسىء للقرآن بمثل تلك المقالة الخطيرة التى تخالف ما قاله رب العزة جل وعلا عن كتابه العزيز.
لقد جاءت نصوص القرآن الكريم "محكمة " أى دقيقة الدلالة (هود 1) وهو كتاب لا مجال فيه للعوج بل جاء مستقيما مباشرا (الزمر 28)(الكهف 1)( الأنعام 126 ، 153 ).وهو كتاب لا مجال فيه للاختلاف (النساء 82)]
لذلك أحب أن أضيف ، أن القرآن ليس حمال أوجه ، بل عقول الذين تصدوا للتفسير عبر القرون من فقهاء ومفسري العصور الوسطي هي التي يمكن أن نطلق عليها (حمال أوجه) فالإنسان هو النتاج الحقيقي للبيئة التي يعيش ويتربى فيها ، وكل هؤلاء الشيوخ والعلماء وقعوا في خطأ بسيط ولكن قاتل ، وهذا الخطأ هو محاولتهم تفسير القرآن بعيدا عن مدلول مفرداته اللغوية وقت نزوله ، ولكن وفقا لمدلول تلك المصطلحات اللغوية ومعاني استخدامها في الأزمنة التي عاشوا فيها ، فقاموا بذلك بتجريد القرآن من أدواته وإخضاعه لسقوف معرفتهم ، مع أن مدلول الكلمات القرآنية وفقا لسياق النص وطبقا لمعاني المفردات اللغوية وقت نزوله يؤكد على أن القرآن ليس له إلا وجه واحد.
نظريات علمية أو شواهد كونية
كما أحب أن أأكد على أن هذه النتيجة لا تعارض بينها وبين ما يمكن اكتشافه من نظريات علمية أو شواهد كونية أو توافقات عددية تعطي بعدا جديدا للنصوص القرآنية لأن ذلك لا يتعدى كونه تطبيقا للمدلول الثابت للمعاني اللفظية في الحوار القرآني تؤكد على صلاحية القرآن لكل زمان ومكان] ولكي نصل إلي الحقيقة في هذا الموضوع يجب أولا أن نتفق على مفهوم لكلمة (حمال أوجه) ان المفهوم الذي ساقه البعض هو (أى ترى فيه الرأى ونقيضه؟ وترى فيه الاختلاف فى الرأى الواحد؟ وبحيث تنتقى الرأى الذى تختار ويكون لمن يخالفك فى الرأى أن ينتقى هو الآخر من آيات القرآن ما يؤيد وجه نظره) هذا قطعا مرفوض تماما وبهذا المفهوم لكلمة حمال أوجه نخرج القرآن – حاشا لله – من كونه كتاب هداية إلي كونه كتاب للحواه – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا – ولكن هل هناك معنى آخر لكلمة حمال أوجه؟
من وجهة نظري أنه يوجد معنى آخر لكلمة حمال أوجه (وهو إمكانية فهمه رغم إختلاف الخلفيات البيئيه والعلمية والثقافية واختلاف الزمان والمكان).
يقول الحق سبحانه وتعالى (وما ارسلناك الا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن اكثر الناس لا يعلمون) سبأ 28 ، ويقول سبحانه وتعالى مخاطبا رسوله (وما ارسلناك الا رحمة للعالمين) الأنبياء 107 ، أي أن نطاق صلاحية القرآن من لحظة نزوله على قلب الرسول عليه أفضل صلاة وأتم تسليم يمتد ليشمل كل الأزمنة وكل الأمكنة حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، وهذا ما نطلق عليه استغراق النص القرآني لكل الأسقف المعرفية
فعلى سبيل المثال يقول الحق سبحانه وتعالى (... سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ (14) الزخرف ، فأسم الإشارة (((هذا))) يحمل على الفلك والأنعام كما ورد في الاية السابقة على هذه الآية ، وقد يحمل على السيارة والطائرة والقطار كما نعرف الأن وقد يحمل على ما سيخترعه الانسان في المستقبل من وسيلة نقل وركوب ، فلو قلنا أن للقرآن وجه واحد للفهم وهو الفلك والانعام فقط كما صرح القرآن نفسه فإننا بذلك نخرجه من عمومية صلاحيته وتجرده إلي ضيق حدود الفهم في بيئة واحدة ونكون قد تجنينا على القرآن الكريم جناية خطيرة وافتئتنا عليه افتئاتا عظيما.
من المعروف أن الانسان يحكم فهمه للنصوص وحكمه على الوقائع خمسة عوامل (البيئة – النشأة – العلم – الثقافة – الفروق الفردية) وهذا الاختلاف الكوني بين البشر هو السبب الحقيقي للخلاف ودائما ما يكون هذا الخلاف هو الباب للحروب والنزاعات ، ولأن الله سبحانه وتعالى وهو الخالق العظيم يعلم ذلك قال لنبيه (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين) النحل 125 ، لأنه وإن كان خلافا ظاهرا فإن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يعلم الاختلاف الكوني وأبعاده بين كل فرد وآخر لذلك فهو وحده الذي يعلم من الضال ومن المهتدي؟ المطلوب أن نتفق على منهج للفهم تكون اللغة العربية وقت نزول القرآن وفي بيئة رسول الله عليه الصلاة والسلام هي أداة فهم القرآن فكما اتفقنا على أن القرآن ليس له سقف معرفي يجب أن نتفق على أن القرآن له أداة معرفة.
ثم أن الاختلاف الذي حدث بين من المنتمين للمدارس الفكرية المختلفة هو أوضح دليل على أتحاد الامرين معا وهو إختلاف الخلفيات البيئة والمعرفية والنشأة بين المنتمين للفكر مع رفض بعضهم إعتماد منهج فهم مشترك تكون اللغة هي أداة الفهم فيه ، فمثلا فهم البعض قوله سبحانه وتعالى (لانفرق بين أحد من رسله) على أنه لانفضل بين أحد من رسله هذا رغم أن النص القرآني لم يساوي بين التفريق والتفضيل ، فالتفريق هو المباعدة على نحو قوله تعالى (واذ فرقنا بكم البحر فانجيناكم واغرقنا ال فرعون وانتم تنظرون) البقرة 50 ، وقوله سبحانه وتعالى (قال هذا فراق بيني وبينك سانبئك بتاويل ما لم تستطع عليه صبرا) الكهف 78 وقوله سبحانه وتعالى (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وارصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن ان اردنا الا الحسنى والله يشهد انهم لكاذبون) التوبة 107 ، والأدلة كثيرة من كتاب الله أن كلمة (فرق) تعني المباعدة حتى بين المتساويين ولا تعني أبدا المفاضلة ، فهنا رفض البعض أعتماد لغة القرآن كأداة فهم للقرآن مكتفيا بفهم القرآن بلغته هو التابعة لبيئته ، فتوصل لنتيجة غاية في الشذوذ وهو تكفير كل من قال محمد رسول الله في الشهادة لأنه بذلك فرق بين رسله أي فاضل بينهم، وعليه فإن المطلوب ليس فهما واحدا للقرآن الكريم بل يجوز أن تكون هناك إختلافات في فهم القرآن شرط توحيد المنهج مع إستخدام نفس الأداة وهي أن يفهم القرآن بلغته ومفرداتها والتي يمكن أن نستقيها من سياق النص القرآني ، كما يمكن أن ندرسها مما وصل إلينا من شعر وبلاغة ينتمي لنفس الحقبة التاريخية ، هذا والله تعالى أعلم.