قبل أكثر من شهرين ونصف الشهر ، كتبت ونشرت مقالا بعنوان "السباق على رفح" ، كان المشهد يشبه الوضع الحالى فى كثير من مفرداته ، كان رئيس وزراء العدو"بنيامين نتنياهو" يرغى ويزبد كعادته ، ويكرر نيته وقراره اجتياح "رفح" ، وكانت المفاوضات تجرى من "باريس" إلى "الدوحة "إلى "القاهرة" ، وكان ثمة تفاؤل من الوسطاء بقرب التوصل إلى هدنة الأسابيع الستة ، وانتهيت وقتها نصا إلى أنه "قد يؤدى ذلك كله إلى تأجيل عملية رفح حتى إشعار آخر" ، وقد كان إلى اليوم .
وقد لا يعنى ذلك بالضرورة ، أننا قد نكون بصدد تأجيل مضاف لعملية غزو "رفح" أقصى جنوب قطاع "غزة" ، التى يحذر منها الكثيرون ، وأولهم "أنطونيو جوتيريش" الأمين العام للأمم المتحدة ، فوق تحذيرات الاتحاد الأوروبى مع أطراف عربية رسمية ، أظهرها موقف السياسة المصرية ، التى تتخوف من غزو رفح بريا لاعتبارات فلسطينية ومصرية ، بسبب الاكتظاظ المهول لنحو المليون ونصف المليون فلسطينى ، فى رقعة أرض لا تصل بالكاد إلى ستين كيلومترا مربعا ، بدت كأنها الملجأ الأخير المتبقى لسكان قطاع "غزة" النازحين قسرا ، وتنفيذ اجتياح برى همجى فيها مما تعود عليه جيش الاحتلال "الإسرائيلى" ، يهدد بدفع مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى الحدود المصرية ، وإجبارهم على عبور الحدود إلى "سيناء" ، إضافة لمقتلة مروعة متوقعة ، تضاعف عدد ضحايا حرب الإبادة الجماعية الجارية من سبعة شهور ، التى جاوز عدد ضحاياها إلى اليوم رقم المئة والثلاثين ألفا بين شهيد وجريح ومفقود تحت الأنقاض ، وهاجس التهجير الجماعى للفلسطينيين يؤرق السياسة المصرية ، فوق ما يعنيه من تصفية للقضية الفلسطينية ، وإغراء كيان الاحتلال بتكرار الأمر ذاته فى القدس والضفة الغربية المحتلتين ، ولا يصح لأحد ـ بالطبائع والسوابق ـ أن يركن إلى تطمينات إدارة "جو بايدن" الأمريكية ، التى تدعى علنا أنها تختلف وتعارض عملية برية كبرى فى "رفح" ، وبدعوى الحرص على حماية المدنيين وتجنب مجازر جديدة ، وفى شهادة أخيرة لوزير الدفاع الأمريكى الجنرال "لويد أوستن" أمام الكونجرس ، سألوه بما معناه : أنتم فى الإدارة تتخوفون من غزو كبير فى "رفح" ، فماذا أنتم فاعلون إذا جرى الغزو بالفعل ؟ وبالذات بعد إعلان "نتنياهو" عزمه على الغزو سواء جرى إتفاق هدنة أو و لم يتم ، وكان رد "أوستن" عبثيا ، فقد قال أن الإدارة ستعارض وقتها ، وحين سئل : وماذا تعنى المعارضة من إجراءات ؟
جواب “أوستن”
كان جواب "أوستن" : أن الأمر متروك لقرار الرئيس "بايدن" (!) ، وهو ما يعنى بوضوح أن لا شئ سوف تفعله الإدارة الأمريكية حين يجرى غزو "رفح" ، ربما سوى الضحك على الذقون بالإعراب عن القلق الكذوب ، فإسرائيل تقتل الفلسطينيين بالأسلحة الأمريكية ، وما من اختلاف جوهرى بين واشنطن وتل أبيب إلا فى تفاصيل وتقديرات ، على طريقة توزيع الأدوار الظاهرى المتفق عليه غالبا ، فالموقف الأمريكى المعلن مع ما تسميه حق "إسرائيل" فى الدفاع عن النفس ، ومع حق جيش الاحتلال فى مطاردة حركة "حماس" وأخواتها ، وكيان الاحتلال يزعم أن غزو "رفح" ضرورى لإكمال مهمة القضاء على "حماس" ، وبحسب كلام "نتنياهو" ، فإن أربعة كتائب لحركة "حماس" لا تزال متبقية فى "رفح" ، وأن القضاء عليها لازم لتحقيق ما يسميه "النصر المطلق" ، والمعنى ببساطة أن الاتفاق جامع بين "واشنطن" و"تل أبيب" ، وإن كانت واشنطن تروج أحيانا لعمليات فى "رفح" من نوع مختلف ، تستهدف عناصر "حماس" دون السكان المدنيين ، وهو ما تتظاهر "إسرائيل" بأنها تبدى تجاوبا معه ، وتقيم معسكر خيام غرب "خان يونس" ، تدعو لتهجير السكان من "رفح" إليه ، وإبعادهم عن مناطق العمليات البرية ، وهو اقتراح هزلى وهزيل ، فحتى لو افترضنا قبولا من السكان بالذهاب إلى خيام "إسرائيل" ، فإنها لا تستوعب سوى بضعة آلاف ، فيما تترك بقية المليون ونصف المليون فى "رفح" طعاما للنار ، وهو ما يبدو أن "واشنطن" لا تمانع فيه ، بدليل أن الإدارة الأمريكية من "بايدن" حتى "أنتونى بلينكن" وزير الخارجية ، ينطقون بصوت واحد مع "نتنياهو" ، ويحملون "حماس" وحدها مسئولية التعثر فى الوصول لاتفاق هدنة الأسابيع الستة ، مع أن "حماس" أبدت مرونة تكتيكية ملموسة ، ووافقت على إرجاء تلبية شرطها بانسحاب قوات العدوان بالكامل من "غزة" إلى المرحلة الثانية من اتفاق المراحل الثلاث ، الذى يعرف إعلاميا بوصفه "المقترح المصرى" ، فيما أعلن "نتنياهو" بوضوح ، أنه ضد الانسحاب المطلق من "غزة" ، وأن عزمه غزو "رفح" بريا قائم سواء جرى اتفاق تبادل أسرى أو تعثر ، وهو ما يعنى بذات الوضوح ، أن "تل أبيب" و"واشنطن" تعتزمان استغلال هدنة الأسابيع ـ إذا جرى إعلانها ـ فى خدمة التخطيط لغزو "رفح" ، فتصور هدنة المرحلة الأولى ، ينص على فتح الطرق لتسهيل إعادة النازحين من "رفح" إلى الشمال والوسط ، وبما قد يؤدى إلى تفريغ أكبر لكتلة الاكتظاظ السكانى اللاجئ إلى "رفح" ، وتقليص حدة الاعتراضات الدولية والإقليمية على عملية غزو "رفح" ، وهو ما يفسر حديث "نتنياهو" عن تصميمه على الذهاب إلى "رفح" حتى بفرض التوصل لاتفاق مرحلى ، وقد لا يكون لدى "نتنياهو" وعصابته الملتاثة من اختيار آخر ، فهو يطارد وهما يسميه "النصر المطلق" ، الذى لم يتحقق منه شئ فى حرب الشهور السبعة إلى اليوم ، اللهم إلا الإبادة الجماعية للحجر والبشر المدنيين الأبرياء العزل ، فى حين لم تتحقق الأهداف الأصلية المعلنة لحرب الإبادة الأمريكية "الإسرائيلية" ، فلا أسرى الأمريكيين و"الإسرائيليين" أعيدوا بالقوة المسلحة ، ولا جرت إبادة حركة "حماس" وجناحها العسكرى ، ولا حدث التقدم إلى تكريس سلطة عميلة بديلة لحكم "حماس" فى "غزة" ، ولا يبدو تحقيق الأهداف الأصلية المعلنة للحرب ممكنا ، حتى مع غزو "رفح" بريا ، فما عجزت عنه الآلة العسكرية الوحشية فى الشمال وفى مدينة "غزة" ، وفى مخيم "النصيرات" و"دير البلح" وفى "خان يونس" ، لن تصل إلى شئ منه فى عملية غزو "رفح" ، وكلنا يذكر ما قيل "إسرائيليا" وأمريكيا من البداية ، عندما زعموا أن قيادة "حماس" موجودة فى أنفاق تحت مستشفى "الشفاء" فى مدينة "غزة" ، ثم ما لاقوه من خيبة كبرى بعد تدمير مستشفى "الشفاء " لمرتين ، وكلنا يذكر ما قالوه عن "خان يونس" ، وأنها عاصمة الجناح العسكرى لحركة "حماس" ، ثم خروج فرقة الاحتلال من "خان يونس" ، ومن دون تحرير أسراهم ولا اغتيال "يحيى السنوار" وصحبه ، والأربع كتائب الموجودة فى "رفح" على ما يزعمون ، لن يكون قتالها أيسر من قتال أخواتها فى مخيمات ومدن الشمال والوسط و"خان يونس" ، ولسبب بسيط ظاهر لأى مراقب ، ربما إلا لجماعة العميان الأمريكيين.
كتائب المقاومة عادت
و"الإسرائيليين" ، هو أن الشق العسكرى الخالص من الحرب يجرى على غير ما ألفوا أو توقعوا ، وفى صورة حرب غير متناظرة ، تتوهم فيها قوات الغزو أنها تتقدم على سطح الأرض من شمال إلى جنوب شريط "غزة" ، فيما تحتفظ قوات المقاومة بحرية الحركة العكسية ، وتفاجئ قوات العدو بالكمائن المركبة ، والاستدراج إلى فخاخ القتل ، وتخرج من حطام المبانى ، ومن مدن أنفاق واسعة متعددة الطبقات ، لم تنجح كل أجهزة الاستخبارات وكل التكنولوجيا المتقدمة فى كشف خرائطها ، اللهم إلا فى القليل ، فيما تبقت أغلب الأنفاق المعقدة سرا مستغلقا ، وفى كل جولة ، يتوهم فيها العدو أنه سيطر وانتهى من "تطهير" منطقة ما وسحب قواته ، يعود مجددا إلى القتال فيها ، بعد أن يكتشف أن كتائب المقاومة عادت للعمل فيها ، وإلى حد يقدر معه جنرالات كيان الاحتلال نفسه ، أن عدد مقاتلى المقاومة فى الشمال ومدينة "غزة" يفوق العدد المحتمل فى "رفح" ، وهو ما يعنى ، أن جيش الاحتلال غرق فى متاهة الرمال ، ولا يدرك أول قصة الحرب من آخرها ، وأن القتال يدور فى دائرة مفرغة ، تكون فيها نقطة النهاية هى ذاتها نقطة البداية .
والمحصلة فيما جرى ويجرى وسيجرى ، أن القتال فى "رفح" لن يحقق "النصر الموهوم " الذى يتحدث عنه "نتنياهو" المهزوم ، وأن خسائر جيش الاحتلال فيها ستكون أفدح فى الأفراد والآليات ، وأن قوات المقاومة ستحتفظ غالبا بمرونة هائلة فى التحرك إلى الشمال وإلى الجنوب ، وأنها أعدت لكل شئ عدته ، وقد أتيحت لها فترة استعداد طويلة على مدى شهور التهديد بغزو "رفح" ، وسواء تم الغزو بعد أيام أو بعد أسابيع ، وقد زادت معدلات القصف الجوى لسكانها أخيرا ، فقد صارت "رفح" الصغيرة عنوانا لمعركة الفصل النهائى فى الحرب كلها ، وإنا معكم لمنتظرون نصر الله لعباده الصابرين المقاومين .