و الأخيرة

رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

في مثل هذه الأيام من كل عام يحدث السلفيون ضجة مفتعلة بشأن عدم دفع زكاة الفطر من النقود ، والإصرار على إخراجها " حبوب " وتبدأ رحلة جدال عقيمة تفيد بأن الأمة ليس بها مشاكل ، وأنها تحيا في رفاهية ! ويستند السلفيون إلى حديث ابن عمر أن النبى قد أمر بإخراجها " .. صاعاً من تمر أو شعير " وفى رواية أخرى " .. أو من أقط " وهو من منتجات الألبان بعد تجفيفها .
وبلغت مرحلة التشدد أن بعضهم لا يجيز أن تخرجها " مالاً " !! . والواقع أننا بلغنا مرحلة من التراجع العقلى البغيض ، ولو أن أحدهم قيم مع نفسه ما هي الأمور التي يثور من أجلها ، والأمور التي لا تعنيه لشك في إسلامه من الأصل . وسمعت أحدهم وهو يهاجم من يدفعوها مالاً ، ويرى أن ذلك بخلاف السُنة التي يجب أن نتبعها ، لأن النبى صلى الله عليه وسلم حدد صنفين أو ثلاثة ( التمر أو الشعير أو الأقط ) . بمقدار (صاع) لصنف واحد منهم .
والغريب أن عددا كبيرا من الصحابة قد خالف النص من حيث النوع والكمية ، فإن عددا منهم وجد في زمانه أن نصف صاع من قمح ، يعدل صاعاً من تمر أو شعير ، فأخرجوا نصف صاع من القمح في زكاة فطرهم . فهل خالف هؤلاء الصحابة الشرع في شيء ، أو تجاهلوا السُنة ؟ ! 
بل أن ابن المنذر يخبر بأنه لم يرد خبر موثق عن النبى يعتمد عليه بشأن القمح ، مؤكدا بأن القمح بالمدينة في ذلك الوقت لم يكن بالسلعة المتوفرة على عكس  الشعير ، وأن زمن الصحابة ـــ بعد النبى ــ رأوا أن نصف صاع من القمح يقوم مقام صاع كامل من الشعير . ويزيد ابن المنذر عن عثمان ، وعلى ، وأبى هريرة ، وجابر بن عبدالله ، وابن عباس ، وابن الزبير ، وأمه أسماء بنت أبى بكر وغيرهم قد رأوا جميعا إخراج زكاة الفطر نصف صاع من قمح . فهل يفيد ذلك سوى أن الاجتهاد في هذا الأمر مفتوح في حدود النص ؟ 
وهذا ما أكده رواة الحديث عن سعيد الخدرى قال : " كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام ، أو صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير ، أو صاعا من زبيب ، أو صاعا من أقط ، فلم نزل كذلك حتى قدم علينا معاوية المدينة فقال : إنى لأرى مُدَين ( أي نصف صاع ) من سمراء الشام ( يعنى القمح) تعدل صاعاً من تمر ، فأخذ الناس بذلك ، إن هؤلاء الصحابة قد خالفوا النص ووجدوا أن القمح أكثر ثمنا من غيره ، فأخذوا جميعا بهذا الرأي .

نصوص الفقهاء 

وجاء الفقهاء ليضعوا كل النصوص أمامهم ، ونظروا لروح النصوص والغاية منها ، والتطبيقات العملية لإخراج الزكاة ، فوجدوا قول عمر بن عبدالعزيز وغيره بإخراجها ( نقود) وهكذا فعل ، وهذا ما أفتى بع أبو حنيفة و أصحابه ومدرسته الفقهية ، فالنبى قد راعى ظروف البيئة والزمن فأوجبها من الطعام الموجود في أيدى الناس ، خاصة وأن النقود قليلة بين أيدى العرب ، وفى الشرع أن كل شيء له قيمة هو في الأصل مال، إننا ننظر إلى تعريف البيع في الفقه ــ مثلا ــ فتجدهم يعرفون البيع بأنه " مبادلة المال المتقوم ـ الشىء الذى له قيمة مالية ــ بالمال المتقوم تمليكا وتملكا " بل كانت التعويضات تدفع من تمر المدينة ، الذى يعتبر المال الذى يدفعونه ، بل ويشترون به .

وبعضهم كان يشترى ما يريد بالزبيب أو الشعير، وظهرت آنذاك أحكام المقايضة بشروط تحكمها قاعدة 
" ولا تبخسوا الناس أشياءهم " . فإذا دخل السلفيون في معركة كل سنة مع الناس ليخرجوا زكاة الفطر حبوبا من منتج أهل البلد التي يعشون فيها ، يكونوا بذلك قد خالفوا نص السُنه كما يدعون ، لأنهم أخرجوها أرزا أو عدسا أو ذرة أو كما يدعون ، إن التشدد حالة مرضية يحسنها كل فرد لا يفهم روح الشريعة ولا مقاصدها ، فهل بتشددهم المقيت قد أصابوا السُنة ؟ !إن المقصود من زكاة الفطر إغناء المساكين عن السؤال والطواف على البيوت والشوارع يتسولون أسباب الحياة والبقاء . كما قال الرسول : " أغنوهم عن السؤال فى هذا اليوم " ، فهل السؤال منهم يعنى منحهم طعاماً فحسب ، أم أن الإغناء يكون بالمال أيضا ؟ ! إن هناك تياراً يبعد بعقله عن الواقع بعد المشرقين عظيم ، فهلا أرحونا من هذا العوج في التفكير ؟ ! ، إن عمر بن عبدالعزيز لم يكن على معصية حين جعلها مالاً ، ولم يخالف أبو حنيفة الشرع حين أجازها مالاً ، فكما راعى معاوية وعمر بن عبد العزيز وغيرهما عنصرا الزمان والمكان مع طبيعة السكان ، فإن جمعا من الفقهاء قد أجاز ذلك .... ، وعلى الناس أن ينظروا ما فى مصلحة الفقير فليقوموا به فى هدوء وبلا ضجيج . 

تم نسخ الرابط