الأولى و الأخيرة

منير صليب في مواجهة السادات

انتفاضة الخبز .. قصة ثورة انتصر فيها القضاء المصري للشعب الجائع

موقع الصفحة الأولى

انتفاضة الخبز أو ثورة الجياع أو حتي انتفاضة الحرامية كما أطلق عليها الرئيس الأسبق أنور السادات، كلها كانت عنوانا لحراك شعبي شهدته مصر مصر في يناير من عام 1977 .
كانت مظاهرات شعبية ضد الغلاء، جرت في أيام 18 و19 يناير 1977 في عدة مدن مصرية رفضا لمشروع ميزانية يرفع الأسعار للعديد من المواد الاساسية، حيث ألقى عبد المنعم القيسوني، نائب رئيس الوزراء للشؤون المالية والاقتصادية خطاب أمام مجلس الشعب في 17 يناير 1977، أعلن فيه إجراءات تقشفية لتخفيض العجز، وربط هذا بضرورة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتدبير الموارد المالية الإضافية اللازمة.
كان رد فعل الشارع على الزيادات أن خرج الناس للشوارع والميادين حتى استجابت الحكومة وتراجعت عن زيادة الأسعار
أطلق الرئيس المصري أنور السادات عليها اسم "ثورة الحرامية" وخرج الإعلام الرسمي يتحدث عن مخطط شيوعي لإحداث بلبلة واضطرابات في مصر وقلب نظام الحكم، وتم القبض على عدد كبير من النشطاء السياسيين من اليساريين قبل أن تصدر المحكمة حكمها بتبرئتهم.

بداية الأحداث


قبل انتفاضة الخبز عام 1977، كان عمال مصر في قلب الحدث، حيث قاموا بعدة إضرابات خلال عامي 75 و 76 فقد كان الشعب يحلم بالرخاء الاقتصادي الذي وعد به الرئيس السادات بعد حرب اكتوبر 1973 ، إلا أنه في يوم 17 يناير 1977 أعلن نائب رئيس الوزراء للشئون المالية والاقتصادية الدكتور عبد المنعم القيسوني في بيان له أمام مجلس الشعب مجموعة من القرارات الاقتصادية منها رفع الدعم عن مجموعة من السلع الأساسية ورفع أسعار الخبز والسكر والشاي والأرز والزيت والبنزين فضلا عن 25 سلعة أخرى .
وكانت الإجراءات تشتمل على تخفيض الدعم للحاجات الأساسية بصورة ترفع سعر الخبز بنسبة 50% والسكر 25% والشاي 35% وكذلك الأرز وزيت الطهي والبنزين والسجائر.
بدأت الانتفاضة بعدد من التجمعات العمالية الكبيرة في حلوان وشبرا الخيمة والمحلة الكبري وكفر الدوار، وهو ما تحرك معه طلبة الجامعة، واعلن المحتجون رفضهم للقرارات الاقتصادية بالخروج إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة تهتف ضد الجوع والفقر وبسقوط الحكومة .
بدأت نفس المظاهرات التى قادها اليسار المصري، في الجامعات وانضم الطلاب للعمال ومعهم الموظفين والكثير من فئات الشعب المصري في الشوارع والميادين بالقاهرة والمحافظات يهتفون ضد الحكومة والقرارات الاقتصادية.


أعمال شغب مستمرة


وتطورت أحداث انتفاضة الخبز سريعا صوب أعمال شغب تم خلالها حرق أقسام الشرطة وأبنية الخدمات العامة واستراحات الرئاسة بطول مصر من أسوان حتى مرسى مطروح، ووصل الهجوم إلى بيت المحافظ بالمنصورة وتم نهب أثاثه وحرقه، واستمرت الاحتجاجات حتى وقت متأخر من الليل مع عنف شديد من قوات الأمن وتم القبض على مئات المتظاهرين وعشرات النشطاء اليساريين.
استمرت الانتفاضة يومي 18 و 19 يناير وفي 19 يناير، وقامت الشرطة بإلقاء القبض على الكثير من النشطاء وزاد العنف في ذلك اليوم ثم أُعلن في نشرة أخبار الثانية والنصف عن إلغاء القرارات الاقتصادية ونزل الجيش المصري لمنع المظاهرات وأُعلنت حالة الطوارئ وحظر التجول من السادسة مساء حتى السادسة صباحا. 
لم تنتهي قصة انتفاضة الخبز عند هذا الحد، فقد كان هناك مئات المتهمين داخل السجون علي ذمة الأحداث ، بتهمة قلب نظام الحكم، وهي التهمة التى نفتها عنهم المحكمة في حكمها التاريخي الذى صاغه القاضي منير صليب.


القاضي حكيم منير صليب


كانت حيثيات حكم البراءة الذي أصدره المستشار حكيم منير صليب، لصالح المقبوض عليهم جراء انتفاضة الخبز كاشفا للحقيقة التى حاول الرئيس السادات وحكومته إخفائها .
قال القاضي في حيثياته: مما لا شك فيه أن تلك الأحداث الجسام التي وقعت يومي 18 و19 يناير 1977 كان سببها المباشر والوحيد إصدار القرارات الاقتصادية برفع الأسعار، فهي متصلة بتلك القرارات اتصال المعلول بالعلة والنتيجة بالأسباب، ولا يمكن في مجال العقل والمنطق أن ترد تلك الأحداث إلى سبب آخر غير تلك القرارات، فلقد أُصدرت على حين غِرّة وعلي غير توقع من أحد، وفوجئ بها الناس جميعا بمن فيهم رجال الأمن، فكيف يمكن في حكم العقل أن يستطيع أحد أن يتنبأ بها ثم يضع خطة لاستغلالها ثم ينزل إلى الشارع للناس محرضا ومهيجا.  
وبسبب هذا الحكم المنصف الذي لم يستجب لرغبات الرئيس أنور السادات في التنكيل بمن خرجوا في المظاهرات، حفر القاضي الذي رحل في 10 فبراير 2004 اسمه بين الخالدين ومازال حيًا في ضمير الوطن.  


براءة ١٧٦ متهم 


حكم منير صليب ببراءة ١٧٦ متهم في الانتفاضة، وقد بدأت المحاكمة يوم أول ابريل سنة 1978، واستمرت جلساتها في الانعقاد على مدى سنتين، وكان خلالها على عبد الحكم عمارة وزميله المستشار أحمد حسن بكار مع حكيم منير صليب على قلب رجل واحد. 
وأضافت المحكمة في حيثيات حكمها: المحكمة وهى تتصدى لتلك الأحداث بالبحث والاستقصاء لعلها أن تستكشف عللها وحقيقة أمرها لابد أن تذكر ابتداء أن هناك معاناة اقتصادية كانت تأخذ بخناق الأمة المصرية فى ذلك الحين وكانت هذه المعاناة تمتد لتشمل مجمل نواحى الحياة والضروريات الأساسية للإنسان المصرى، فقد كان المصريون يلاقون العنت وهم يحاولون الحصول على طعامهم وشرابهم ويجابهون الصعاب وهم يواجهون صعودا مستمرا فى الأسعار مع ثبات مقدار الدخول. 
وتابعت: ثم إن المعاناة كانت تختلط بحياتهم اليومية وتمتزج بها امتزاجا فهم مرهقون مكدودون فى تنقلهم من مكان إلى آخر بسبب أزمة وسائل النقل وهم يقاسون كل يوم وكل ساعة وكل لحظة من نقص فى الخدمات وتعثر فيها، وفوق ذلك كان أن استحكمت أزمة الإسكان وتطرق اليأس إلى قلوب الناس والشباب منهم خاصة من الحصول على مسكن وهو مطلب أساسى تقوم عليه حياتهم وتنعقد آمالهم فى بناء أسرة ومستقبل، وسط هذه المعاناة كان يطرق أسماع المصريين أقوال المسؤولين والسياسيين من رجال الحكومة فى ذلك الوقت تبشرهم بإقبال الرخاء وتعرض عليهم الحلول الجذرية التى سوف تنهى أزماتهم وتزين لهم الحياة الرغدة الميسرة المقبلة عليهم.


بحار الأمل الزائف


وأضافت المحكمة: بينما أولاد هذا الشعب غارقون فى بحار الأمل التى تبثها فيهم أجهزة الإعلام صباح مساء إذ بهم وعلى حين غرة يفاجأون بقرارات تصدرها الحكومة ترفع بها أسعار عديد من السلع الأساسية التى تمس حياتهم وأقواتهم اليومية، هكذا دون إعداد أو تمهيد، فأى انفعال زلزل قلوب هؤلاء وأى تناقص رهيب فى الآمال وقد بثت فى قلوبهم قبل تلك القرارات وبين الإحباط الذى أصاب صدورهم ومن أين لجل هذا الشعب ومعظمهم محدود الدخل أن يوائموا بين دخول ثابتة وبين أسعار أصيبت بالجنون، وإذا بفجوة هائلة تمزق قلوب المصريين ونفوسهم بين الآمال المنهارة والواقع المرير، وكان لهذا الانفعال وذلك التمزق أن يجدا لهما متنفسا، وإذا بالأعداد الهائلة من هذا الشعب تخرج مندفعة إلى الطرقات والميادين وكان هذا الخروج توافقيا وتلقائيا محضا، وإذا بهذه الجموع تتلاحم هادرة زاحفة معلنة سخطها وغضبها على تلك القرارات التى وأدت الرجاء وحطمت الآمال. 
وواصلت: حاولت جهات الأمن أن تكبح الجماح وتسيطر على النظام، ولكن أنى لها هذا والغضب متأجج والآلام مهتاجة، ووسط هذا البحر الهادر وجد المخربون والصبية سبيلا إلى إرضاء شهواتهم الشريرة، فإذا بهم ينطلقون محرقين ومخربين ومتلفين وناهبين للأموال وهم فى مأمن ومنجاة وقد التهبت انفعالات هاته الجموع وتأجج حماسهم عندما تعرض لهم رجال الأمن المركزى بعصيهم ودروعهم وقنابلهم المسيلة للدموع، فكان أن اشتعلت الأحداث وسادت الفوضى ولم يكن من سبيل لكبح الجماح وإعادة الأمن والنظام إلا فرض حظر التجوال ونزول رجال القوات المسلحة إلى الميدان وأمكن حينئذ، وبعد جهد خارق استعادة الأمن والنظام. 
وقالت المحكمة في حكمها التاريخي: الذى لا شك فيه وتؤمن به المحكمة ويطمئن إليه ضميرها ووجدانها أن تلك الأحداث الجسام التى وقعت يومى 18 و19 يناير 1977 كان سببها المباشر والوحيد هو إصدار القرارات الاقتصادية برفع الأسعار فهى متصلة بتلك القرارات اتصال المعلول بالعلة والنتيجة بالأسباب.

تم نسخ الرابط