الخيانة لصالح الاحتلال البريطاني
الثورة العرابية .. الانتفاضة الوطنية التى خانها القصر والسلطان
لم تظلم ثورة في التاريخ مثلما ظلمت الثورة العرابية بقيادة أحمد عرابي التى اتهمها البعض زورا بأنها كانت سببا في الاحتلال البريطاني لمصر، علي عكس الحقيقة تماما، التى تؤكد تحالف الخديو توفيق مع السلطان العثماني والاحتلال الانجليزي.
فقد تولى الخديوي توفيق حكم مصر بعد والده إسماعيل، وعين الشركسي التركي عثمان رفقي ناظرا للجهادية "وزير الحربية" عام 1881، وقرر إنهاء خدمة الضباط الكبار، ووضع ضباط شركس مكانهما.
قدم عرابي عريضة باسم الضباط لإقالة ناظر الجهادية، وكانت تلك المرة الأولى التي يتفق فيها الضباط على رفض أوامر صادرة من سلطة عسكرية أعلى، وكانت أول مرة يختارون فيها زعيما لهم، ويقسمون على الولاء له، لذلك كانت فاتحة الثورة العرابية .
وافق الخديوي توفيق على مطلب الضباط بعد رد فعل ضباطهم وجنودهم، فأقال رفقي، وعين بدلا منه ناظر الأوقاف الباشا محمود سامي البارودي ناظرا للجهادية والأوقاف، فاستغل الضباط ذلك وقدموا له لائحة تتعلق بزيادة المرتبات للجند، وتحسين جودة الطعام مع سن قوانين للترقي، وإعادة الضابط الذي قام رفقي بطرده، وأجيبت هذه المطالب كاملة.
وبعد هذه التغييرات، زاع صيت عرابي بين الضباط والجنود والمصريين عموما، وأصبح فكره مؤثرا في الوطنيين من المدنيين والعسكريين، كما أصبح عرابي هدفا لمحاولات الاغتيال، وجرت محاولات كثيرة لقتله، لكنها لم تفلح.
لاحظ عرابي أن قنصل إنجلترا السير مالت في مصر كثير التردد على الخديوي توفيق، علما أن فرنسا كانت قد احتلت تونس في أبريل 1881، فخشي أن تقع مصر في الاحتلال الإنجليزي، لإحداث توازن قوى أوروبي عبر مصر، فأرسل رسالة لأعيان البلد يحث فيها على إقالة وزارة رياض باشا، وهو ما اعتبر نقلة كبيرة في مسار الحركة الوطنية.
الثورة العرابية ووقفة عرابي
أرسل عرابي إلى ناظر الجهادية أن آلاي "لواءات" القاهرة ستجتمع كلها أمام قصر عابدين في التاسع من سبتمبر 1881، ولما سمع الخديوي بذلك أرسل على الفور مبعوثا إلى الآلاي، لكنهم رفضوا إلغاء المظاهرة.
في يوم المظاهرة، حضر عرابي وباقي آلاي القاهرة وخرج الناس يسيرون وراءهم إلى قصر عابدين، وعندما رأى الخديوي تجمهر الجنود طالبهم بإغماد سيوفهم والعودة إلى أماكنهم، فلم يجيبوه، فسأل عرابي عن طلباته، فأخبره أنهم يطلبون "إسقاط الوزارة المستبدة، وتشكيل مجلس النواب على النسق الأوروبي، وزيادة عدد الجيش إلى القدر المعين في الفرمانات السلطانية، والتصديق على القوانين العسكرية السابق أمركم بوضعها". وكان قوام الجيش 12 ألف جندي، والفرمان السلطاني يقضي بأن يكون 18 ألفا.
رفض الخديوي هذه المطالب وقال لعرابي "ما أنتم إلا عبيد إحساننا"، فقال عرابي جملته الشهيرة "نحن خلقنا الله أحرارا، ولم يخلقنا تراثا أو عقارا، فوالله الذي لا إله إلا هو إننا لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم".
وبعد مفاوضات تدخل بها السير أوكلاند كولفن مراقب حسابات مصر، قبل الخديوي إقالة الوزارة، واتفقوا على إسنادها إلى محمد شريف باشا، واتفقوا على إنفاذ باقي الطلبات بالتدريج مما عد نصرا كبيرا للثورة العرابية.
بعد تشكيل الوزارة طلب البارودي من عرابي وعبد العال حلمي أن ينتقلا من القاهرة، ونقل حلمي إلى دمياط، وعرابي إلى رأس الوادي بالشرقية، وقبلا القرار، لكن عرابي اشترط أن يصدر أمر بانتخاب مجلس شورى النواب قبل السفر، وبعد صدوره بيوم توجه إلى الشرقية.
خلافات الحركة الوطنية
بعد نجاح الثورة العرابية ، وقع الخلاف داخل الحركة الوطنية المصرية عند إعداد لائحة مجلس النواب؛ فقد رأى شريف باشا أن يناقش المجلس نصف الموازنة المالية المصرية، إذ كان يذهب النصف الباقي إلى الديون الأوروبية والجزية إلى الباب العالي، ورفض العرابيون ذلك، ولما استشعر شريف إصرارهم استقال من رئاسة الوزراء، وكلف محمود البارودي بتشكيل الوزارة، وأصبح عرابي وزيرا للجهادية.
اكتشف عرابي محاولة ضباط من الشراكس اغتياله واغتيال زعماء من الحركة الوطنية، وتم اعتقال 48 ضابطا، منهم عثمان رفقي باشا، وصدر ضدهم حكم بالنفي إلى السودان وتجريدهم من الرتب العسكرية، لكن أوكلاند كولفن مراقب حسابات مصر وقنصل إنجلترا السير مالت استغلا الفرصة لزرع الانقسام؛ فنصحا الخديوي بعدم التصديق على الحكم، بدعوى أنه لا يجوز لغير السلطان أن يجرده من لقبه.
فأرسل الخديوي إلى "الحضرة العلية"، فأصبح للعثمانيين دور كذلك في القضية، وللخروج من الأزمة اقترحت الوزارة أن يتم نفيهم إلى أي بلد من دون أن تمس رتبهم وألقابهم، لكن تمحى أسماؤهم من سجلات الجيش؛ فتدخل الإنجليز مرة أخرى ليصدر قرار الخديوي بنفيهم إلى السودان، مع عدم استبعاد أسمائهم من سجلات الجيش، الأمر الذي يعني أن نفيهم سيكون مؤقتا، فثارت الوزارة ضد القرار.
تدخل الانجليز والفرنسيين
استفحل الخلاف بين وزارة البارودي والخديوي، فأبلغ القنصلان الإنجليزي والفرنسي الخديوي توفيق، منتصف مايو 1882م أن حالة البلاد خطرة وتستوجب التدخل قبل قيام أي ثورة، وأنهما سيرسلان سفنا حربية إلى المياه المصرية، وبدأ وصول السفن يوم 20 من الشهر ذاته.
وتقدمت الحكومتان البريطانية والفرنسية بمذكرة مشتركة بعدها بـ5 أيام، طالبتا باستقالة حكومة البارودي وإخراج عرابي من القطر المصري، وإبعاد عبد العال بك حلمي وعلي بك فهمي إلى الأرياف، مع احتفاظهم جميعا برتبهم وراتبهم ونياشينهم، وأعلنتا الدعم للخديوي.
قبل الخديوي المذكرة، واستقالت الحكومة على إثرها رفضا للتدخل الأجنبي، لكن أعيان القطر وضباط آلاي الإسكندرية ذهبوا إلى الخديوي وأبلغوه رفضهم المذكرة المشتركة، وأنهم لا يرضون غير عرابي وزيرا للجهادية، وأنه إن لم يعد خلال 12 ساعة فإنهم غير مسؤولين عما سيحدث، فاضطر الخديوي للتراجع، فأعيد عرابي إلى الجهادية، لكن القوات الأجنبية لم يعجبها ذلك.
كانت الأساطيل لا تزال مرابطة على شواطئ الإسكندرية، وبدأت القصف صباح 11 يوليو 1882، ولم تصمد المدينة أمام القصف الذي دكّها، وحاول عرابي التحصن في كفر الدوار، لكنه هزم، فانتقل العرابيون للدفاع من التل الكبير.
هزيمة الجيش المصري بالخيانة
كاد الجيش المصري أن يردم جزءا من قناة السويس كي لا يدخل منها الأسطول الإنجليزي، لكن المهندس الفرنسي ديليسبس أكد لعرابي حيادية القناة، وأن الإنجليز لن يدخلوا منها، فتراجع عرابي عن ردمها، لكن دخل الأسطول الإنجليزي من القناة في 26 يونيو.
لم تكن خيانة ديليسبس هي الخيانة الوحيدة لعرابي، فهناك 4 خونة كانوا سببا فى الهزيمة التى تعرض لها العرابيين، وهم محمد باشا سلطان، الذى وزع الذهب على بدو الصحراء الشرقية، وعلى رأسهم الخائن الثانى، سعيد الطحاوى الذى كان مرشدا لعرابى وجاسوسا عليه، والثالث على يوسف الشهير "بخنفس" .
كان عرابى فى خيمته يقرأ الأوراد والأدعية، فجاءه الطحاوى يقسم له أن الإنجليز لن يهجموا قبل أسبوع ثم ذهب لقائد الإنجليز "ولسى" وطمأنه، وبالفعل زحف الإنجليز فى الظلام ووصلوا إلى الخط الأمامى للجيش العرابى.
بينما كان عبد الرحمن حسن قائد فرقة السواري، هو الخائن الرابع، والذى كان يعلم بنبأ الهجوم، وكان يتعين على فرقته أن تكون فى المواجهة، لكنه حرك الجنود بعيدا عن أرض المعركة، ليمر الإنجليز بسهولة إلي المنطقة وبعدها أمطروا الجيش المصري بالقذائف، وكانت الهزيمة وسقوط مصر تحت الاحتلال البريطاني في 13 سبتمبر 1882.
بعدها بيومين سلّم عرابي نفسه في القاهرة بعد دخول الإنجليز، وحوكم ورفاقه بقرار الإعدام في الثالث من ديسمبر 1882، لكن الخديوي توفيق خففه للنفي خارج البلاد، ومنذ ذلك الحين بقي الاحتلال الإنجليزي في مصر حتى 18 يونيو 1956.
وفي أخر فصول الثورة العرابية تم نفي عرابي إلى جزيرة سيلان "سريلانكا" في 28 ديسمبر 1883، وبقي في المنفى 20 عاما، كتب خلالها مذكراته ورؤيته السياسية من بدايتها، حتى صدر قرار بالعفو عنه وعن زملائه، فعاد في 1903، لكنه ظل متهما بالتسبب في احتلال مصر.