بين هيكل وعبد المنعم رياض
كيف تم الترويج لكلمة "النكسة" بعد 5 يونيو 1967؟
"عدى النهار.. والمغربية جاية تتخفى ورا ضهر الشجر.. وعشان نتوه في السكة.. شالِت من ليالينا القمر"، بعد حرب 1967، غنى عبد الحليم حافظ كلمات الأغنية الأشهر بعد حرب 1967، لتكشف عن حجم المعاناة التي واجهها الشعب العربي والمصري خلال حرب الأيام الستة وما بعدها، ولكن الأغنية تكشف أيضا عن حالة الصمود التي فرضها الشعب الرافض للهزيمة الخاطفة، والتي عبرت عنها كلمات: "وعلى النغم تحلم بلدنا بالسنابل والكيزان.. تحلم ببكرة واللى ح يجيبه معاه.. تنده عليه فى الظلمة وبتسمع نداه".
ويستغرب الكثير، خاصة من أبناء الجيل الحالي والأجيال التي لم تعاصر الحرب وما بعدها، لماذا أطلقت وسائل الإعلام المصري والعربي مصطلح النكسة، بدلا من كلمة الهزيمة، ، حيث كان أول من نطق بكلمة النكسة، جمال عبد الناصر، في خطاب التنحي الشهير، والذي كتب كلماته، محمد حسنين هيكل.
وهناك رجلان رافقا الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في مراحل معينة من حروبه التي خاضها، وهما الفريق عبد المنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة، والذي استشهد يوم 9 مارس 1969، والثاني محمد حسنين هيكل، الصحفي الأشهر وأحد أقرب أصدقاء عبد الناصر، والذي كتب له خطاب التنحي الشهير الذي ألقاه بعد النكسة.
بداية كلمة النكسة
ويتحدث عنهما الكاتب الكبير عبد الله السناوي، في كتابه الشهير أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز، قائلا عن "الأستاذ": "عندما شرع فى كتابة خطاب تنحى الرئيس جمال عبد الناصر فى يونيو 1967، لم يكن قد استقر تفكيره على وصف الهزيمة العسكرية بالنكسة، سألته: كيف طرأ التعبير إلى ذهنك في تلك اللحظة القاسية".
ويجيب هيكل، كما يروي السناوي: "تسألنى بعد كل تلك السنوات والعقود كيف طرأ مصطلح النكسة، وأنا أقول لك أمينا أننى لا أعرف، أظنها مشاعر مواطن لم يكن يقدر على إغلاق أبواب الأمل فى المستقبل أمام شعبه... وللتعبيرات قوة تأثيرها فى حركة الأحداث، عندما تقول هزيمة فإن كل شىء قد انتهى، وعليك أن تقر بما جرى وتستسلم له، بينما تعبير النكسة ساعدنا على لملمة جراحنا ودخلت قواتنا المسلحة بعد أيام أحد ملاحمها الكبرى فى معركة رأس العش".
ويواصل محمد حسنين هيكل: "كل ما فكرت فيه أن النكسة وضع مؤقت والهزيمة استسلام نهائى".
ويكمل عبد الله السناوي في كتابه: "نفس النظرة الاستراتيجية تبناها الفريق عبد المنعم رياض مستندا إلى خبرة شعوب أخرى تعرضت لهزائم فادحة، لكن روحها العامة لم تنكسر وأعلنت المقاومة مجددا، وكان صعود رياض لرئاسة أركان حرب القوات المسلحة المصرية بعد النكسة مباشرة تعبيرا عن ضرورات إسناد المناصب العسكرية للكفاءات القادرة على تحمل مسئولية القتال".
مصر ترفض نكسة حرب 1967
وكانت أغنية عدى النهار، وغيرها، معبرة عن حالة الحزن التي عاشتها مصر بعد حرب 1967، والتي أفاق منها الشعب المصري سريعا، مع رفض الهزيمة، بل وإجبار الزعيم الراحل جمال عبد الناصر على البقاء في السلطة، ورفض التنحي، ولكن بشرط إعادة بناء الجيش، وتصحيح المسار ومعالجة الأخطاء، وهو ما تواكب معه الإعلام المصري وقتها، والذي حاول أيضا الإفاقة سريعا من الأوهام التي كان يعيشها، لمسايرة المرحلة الجديدة التي دخلتها مصر والدول العربية.
كانت أولى المرحلة التي يتعين على الإعلام المصري الاهتمام بها وإبرازها لتقديمها للشعب المثقل بجراح النكسة وآلام الهزيمة العسكرية، هي التركيز على الصمود وعلى عمليات الجيش المصري بعد النكسة بوقت قصير، والتي أذهلت الجميع وقتها، فلم يكن يتوقع أحد أن ينهض الجيش الذي تعرض لضربة مؤلمة وقتها، وينفذ عمليات في جرأة معركة رأس العش يوم 1 يوليو 1967، ونجاح قوة من الصاعقة المصرية في صد محاولة القوات الإسرائيلية لمدينة بور فؤاد، وذلك في بداية ما عرف بمرحلة الصمود.
وبعد حرب 1967، نجحت زوارق صواريخ البحرية المصرية، يوم 21 أكتوبر 1967، في إغراق المدمرة إيلات في منطقة شمال شرق بورسعيد، وهي أول معركة تستخدم فيها صواريخ سطح سطح، وتسببت في خسارة فادحة لقوات الاحتلال، مع إغراق مدمرة بأهمية إيلات، وفق ما اعترف به العدو نفسه.
الإعلام والفن المصري يستعدان للمعركة
بعد حرب 1967، دخلت مصر، ومعها إعلامها، إلى المرحلة الثانية، وهي مرحلة إعداد البلاد لمعركة الثأر والتحرير والعبور، ودعمت هذه المرحلة العديد من الأعمال الفنية، بداية من أغاني مثل عدى النهار، وفدائي، وخلي السلاح صاحي، وابنك يقولك يا بطل، والبندقية اتكلمت، وأحلف بسماها وبترابها، والمسيح، لعبد الحليم حافظ، ومدد مدد لمحمد نوح، ويا بيوت السويس، للثلاثي، الشاعر عبد الرحمن الأبنودي والملحن ابراهيم رجب والمطرب محمد حمام، والتي أعاد غنائها الفنان محمد منير بعدها بسنوات طويلة.
ثم كانت قصيدة صلاح جاهين الخالدة والتي كتبها بعد حرب 1967: "على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء.. أنا مصر عندى أحب وأجمل الأشياء.. بحبها وهى مالكة الأرض شرق وغرب.. وبحبها وهى مرمية جريحة حرب.. بحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء.. وأكرهها وألعن أبوها بعشق زى الداء.. وأسيبها وأطفش فى درب وتبقى هى فى درب.. وتلتفت تلاقينى جنبها فى الكرب".
وكانت القوة الناعمة المصرية بإعلامها وفنانيها، سلاحا فاعلا في أرض المعركة، تؤدي واجبها جنبا إلى جنب مع القوات المسلحة المصرية، حتى اكتمل الحلم وتحقق النصر بعد 6 سنوات من العمل والتضحية وإعادة بناء الجيش والبلاد كلها.