د. يمنى طريف الخولي أستاذ الفلسفة بآداب القاهرة إنها ذكرى رحيل فيلسوف "التراث والتجديد" حسن حنفي(1935-2021)، الذي حقق حضورا عالميا لم يبلغه أستاذ فلسفة عربي من قبل. ألقى عروض ومعالم فلسفته في أركان الأرض الأربعة بلغات أربع يجيدها؛ فرض حضوره العالمي، وحضورًا للفلسفة الإسلامية المعاصرة المُتحرية سُبل الهِرمنيوطيقا (=فلسفة الفهم والتأويل). وبتطبيقها في بناءٍ شامل متنامٍ، شهدت الجهات الفلسفية ومصنفات عالمية أن حنفي من أهم رواد الهرمنيوطيقا في النصف الثاني من القرن العشرين وما تلاه. وهذه حقبة جعلت الهِرمنيوطيقا بابًا مفتوحًا وطريقا مطروحًا لبعث الحياة مجددًا في كل واقعٍ ثقافي، لاسيما واقع النصوص التراثية التي هي مخزون شعوري ورصيد حضاري للشعوب. قُدِّر لي أن أدخل جامعات في أكثر من ثلاثين دولة، وحيثما أحل وارتحل أجد فلسفة حنفي موضع تدريس وإجراء أبحاث ورسائل جامعية وندوات، في القارات الخمس التي زرتها.
بالمنهاجية الهرمنيوطيقيّة يتجه مشروعه "التراث والتجديد" بخطى مدروسة وئيدة نحو فجرٍ تشرق فيه شمس ثقافتنا من جديد، مؤكدةً دعائم هوية الأمة في نهوضها وإثبات ذاتها في عصر مابعد الاستعمار. وكان من أنضر مشاريع الفكر العربي، أجرأها في التحليل وفي التركيب، وأكثرها نزوعًا نحو الالتحام بالواقع وحرصًا على مخاطبة مستوياته وتوجهاته المختلفة. ارتفع بمقاربات الإشكالية الأم: "الأصالة والمعاصرة" إلى مستوى التفلسف المُقنـَن، منهاجًا وتطبيقًا.
"التراث والتجديد" مشروع ثلاثي الأضلاع أو الجبهات. الجبهة الأولى هي الموقف من الأنا، حيث يُعاد بناء تراثنا بهدف تحويل علومه القديمة إلى علوم إنسانية حديثة، عبر المشترك الثابت بين القديم والحديث: الوحي القرآني منطق الوجود المُميّز لثقافتنا. الجبهة الثانية هي الموقف من الآخر، من خلال "علم الاستغراب" الهادف إلى فهمِ الآخر/الغرب داخل إطاره وخطوط تطوره التاريخي، لتغدو الثقافة الغربية موضوع دراسة، وليست مركز إحالة، لأنها لم تعد مركزا أصلاً. عصر مابعد الاستعمار هو عصر مابعد المركزية الغربية.
الجبهة الثالثة هي الموقف من الواقع، فيُعاد بناؤه بفعل قوى القرآن الكريم، من خلال التفسير الموضوعاتي، أي موضوعا.. موضوعا، وتتبع الموضوع المَعْنيّ عبر المصحف بأسره، وليس تفسير سورة.. سورة، أو آية.. آية وفقًا لتتابعها بالطريقة الطولية المتبعة في المصنفات التراثية. التفسير الموضوعاتي يستكشف معاني ودلالات راهنة غير التي أفصح عنها النصُ القرآني في الماضي البعيد، مستهدفا مثوله ودورَه في الواقع المعاصر بعدالاستعماري؛ ليشهد نهوض من كانوا مُستعمَرين مُستضعفين في الأرض، وأولئك هم الوارثون. إنهم دائرة من سبع وخمسين دولة إسلامية، مركزها العروبة وآفاقها الإسلام، تتوسط العالم ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا﴾
طوفان الدماء
أهلت الذكري الثالثة لفيلسوفنا في خضم ملحمة غزة الباسلة وآوار حربٍ مستعرة على مدار عام، يُصدّق كل فجرٍ فيه على فشل الكيان الصهيوني في تحقيق أي هدف، واقتصاره على ارتكاب مسلسل المجازر والجرائم ضد الإنسانية، كأنه الثور الذبيح، يهيج بالسكين في رقبته، ليدمر ما حوله ويغرقه بالدماء.. وسيسقط في النهاية. لم يشهد حنفي انطلاقة طوفان الأقصى، وطوفان دماء زكية تسجل الفصل الأخير في ملحمة مابعد الاستعمار، وهو الذي يلتقي مع إنريكو دوسِل(1934-2023) إمام فلسفة التحرير في الثقافة اللاتينية حيث أقوى فلسفات مابعد الاستعمار.
دوسِل أستاذ فلسفة أرجنتيني، هاجر إلى المكسيك كلاجئ سياسي عام 1977واستقر فيها. بدوري سافرتُ إلى المكسيك في مهمة علمية مركبة، أحد بنودها بحث "المنهجية بين الفلسفة العربية وفلسفة أمريكا اللاتينية" وبالتالي المقارنة بين حنفي ودوسِل قطبي فلسفة مابعد الاستعمار والتحرر من إسار المركزية الغربية والأيديولوجيا الاستعمارية.. من هيمنة الآخرالغربي. اليسار الإسلامي مع حنفي هو لاهوت التحرير مع دوسِل، ينطلقان معًا من الجدل الماركسي، للتحرر من بقايا الاستعمارية والمركزية الغربية. تحرير المعرفة مع دوسِل يناظر "علم الاستغراب" مع حنفي الذي هو رد الذهنية الغربية إلى حدودها التاريخية والجغرافية، قضاءً على أسطورة الثقافة الكونية، التي جعل الغرب نفسه مركزاً لها.
أبدع دوسل في تقويض أركان المركزية الاستعمارية ونَسفِ بقاياها، كاشِفًا عن أنها تقوم على خرافة أو مغالطة لامنطقية ولاواقعية، ألا وهي رؤية الغرب كنقطة النهاية لعملية تقدمٍ كونيّةٍ شاملة للبشرية جمعاء، كل الشعوب الأخرى يجب أن تسير نحوها، وسوف تفعل هذا بالضرورة التاريخية. خطيئة العقلية الأوروبية أنها افتقدت الوعي بخصوصيتها التاريخية، هذا مع امتلاكها جهازًا مفاهيميًّا بالغ التطور والفخامة لمقولات الكونية والتجريد والموضوعية وسواها؛ فجعلت التنوير الغربي مرجعية عقلانية وحيدة ومركزية. تلك هي الأسطورة الحداثية الاستعمارية، تسربلت بأزياء العقلانية الرشيدة وبزعم الحقائق الموضوعية المطلقة، من أجل إحكام مركزية الغرب؛ فتحققت هيمنة الثقافة الغربية على الثقافات الأخرى بفعل المنطق وبفعل قوة السلاح.
أوضح إنريكو دوسِل أن قوة الحداثة الأوروبية كانت نتيجة للمركزية الأوروبية وليس سببًا لها، وقد انبثقت أصولها عن نجاح الكشوف الجغرافية والغزو المسلح واستعمار السكان الأصليين في الأميركتين وأفريقيا وآسيا، وفقط بعد انتهاء المركزية العربية الإسلامية، حتى أنه يعتبر بيت الحكمة ببغداد في القرن العاشر يناظر معهد ماساتشوستس بأمريكا في القرن العشرين.
التراث والتجديد في الثقافة العربية الإسلامية وفلسفة التحرير المعرفي في ثقافة أمريكا اللاتينية جناحا جهادٍ مُقدس لاستئصال هذا التزييف الاستعماري وإثبات الذات الحضارية والثقافية والمعرفية لشعوب العالم الثالث، في عصر ما بعد الاستعمار.. عصر التعددية الثقافية بدلا من المركزية الغربية.
كل ذكرى تؤكد حضور فلسفة حنفي. لقد استحضرتها في سبعة أبحاث مرجعية نشرتها، وفي صدور كتابي "المنهج في مشروع التراث والتجديد-2024"، ثم كتاب "منهجيات راهنة نحو المستقبل: لقاءات ومقاربات فلسفية بمشاركة د.عادل مصطفي عن دار رؤية، حيث انفرد حنفي بلقاءين أو فصلين. وكم انفرد وتفرّد هذا الفيلسوف العروبي الإسلامي العملاق.