و الأخيرة

رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

بعيدًا عما يحدث من تخريب ممنهج منذ عقود في التعليم بمصرنا المحروسة، والذى جعل من التعليم سِلعة لمن يدفع أكثر، حتى هجر الطلاب مدارسهم، فساءت أخلاقهم وذوقهم العام، وفهمهم للأحداث وتفسيرها، كما ساءت أخلاق بعض المعلمين، وصاروا لا يستحقون لقبهم وقيمتهم واحترامهم فى أعين الطلاب وأولياء أمورهم. وعند الحديث عن التعليم في فلسطين فنجد أنه ذو مذاق مختلف، والحديث عنه بجد يطول، لأنه تعليم في ظل أجواء وظروف معيشية حياتية لم يعتاد عليها بشر في أية بقعة أرضية بالعالم المحيط، قديما وحديثًا.

وبعيدًا عن مناظر التدمير والنزوح، وبعيدًا عن الجثث المتفحمة أو المقتولة بالرصاص، وأشلائها المترامية هنا وهناك، لكبار سن وأطفال، نساء ورجال، بجميع أنحاء مدينة غزة الصامدة أمام ضربات العدو الإسرائيلي الغاشم، والمدعوم من جميع دول العالم، والتي تدعم بالسلاح مباشرة، وبالمواقف السياسية المؤيدة، وحتى تلك التي التزمت الصمت عما يحدث.

فبعيدًا عن كل ذلك، وعود على بدء، لم يوقف الفلسطينيون عامة، وأبناء وأهالى غزة خاصة، حياتهم أو يدفنوا آمالهم وطموحهم بداخلهم، ولكنهم في ظل كوارث الاحتلال والقتل والتدمير أخذوا يرسمون مستقبل حياتهم وتحقيق آمالهم. فعلى أنقاض المدارس المُهدمة والمُدمرة، كليًا أو جزئيًا، اعتاد التلاميذ الجلوس على الأرض وفتح كتبهم وتلقى دروس العلم والمعرفة من معلميهم، ولقد استطاع بعض هؤلاء الطلاب، الذين يحدوهم الأمل في غد أفضل أن يحصلوا على شهادة الثانوية وبتفوق، وفى ظل تلك الأجواء الحياتية الكارثية، أخذوا يحضرون أوراقهم ويرتبونها من أجل الالتحاق بالتعليم الجامعى، داخل فلسطين أو خارجها، بالجامعات العربية أو الأجنبية. ومن كان منهم يدرس بالجامعة بالفعل، ولكن تم ضرب جامعته وإلحاق ضرر بها، كلى كان أو جزئى، فقد انتقل والتحق بإحدى الجامعات الفلسطينية في الضفة، من أجل استكمال مسيرته العلمية، وتحقيق آماله في الحصول على تعليم وشهادة جامعية، وبالطبع منهم من خرج والتحق بالجامعات العربية، ومنهم من أتى مصر والتحق بجامعاتها الحكومية منها والخاصة، وكذلك جامعة الأزهر، وقد استطاع بعض هؤلاء الطلاب الفلسطينيين تحقيق نجاحات، وتفوق دراسي، بتلك الجامعات التي التحقوا بها، محبة منهم في تحصيل العلم والمعرفة.

ولقد كان من بين أبناء غزة، في ظل تلك الحرب الإسرائيلية الغاشمة، على فلسطين عامة، وقطاع غزة خاصة، من هو مقيدًا بالدراسات العليا، وكان على وشك مناقشة رسالته، ولكن جالت ظروف الحرب دون ذك، فوقفت إجراءات مناقشته، ولكن رغم ذلك فقد استطاعت جامعة الأزهر فى غزة من عقد لجنة مناقشة رسالة ماجستير بإحدى خيام النازحين، وتم مناقشة الطالب وحصوله على درجة الماجستير فى علم النفس. ومن الجدير بالذكر أن لجنة المناقشة قد أثنت على محبة الطالبة في العلم وتحصيله، وذلك بقدرته على تجمع مادته العلمية واقتنائه مراجعه، وقراءتها، واعداد رسالته، في ظل تلك الأجواء الصعبة المستحيلة.

فيليستيريو 

لقد تجلت محبة الفلسطينيين في العلم وتحصيل المعرفة في مصطلح موجود في قاموس اللغة اليونانية القديمة، تلك اللغة الخاصة باليونانيين الأقدمين، الذين أرسوا قواعد الفلسفة والمعرفة، وحضوا عليهما، ومنحوا للمتعلمين والراغبين فيه صفة، استخدموها في أدبياتهم، ولقد تجلت تلك الصفة في الفلسطينيين الآن، وهذا الصفة أو تلك الكلمة اليونانية القديمة هي " فيليستيريو "، وتعنى محبة التعليم، ومحبة البحث، وأيضًا الفضول في العلم والمعرفة. كما ابتكر اليونانيون واستخدموا أيضًا كلمة أخرى لتعريف الشخص المولع بالعلم وتحصيله، فقالوا عنه أنه "فيليستور". وسواء كانت الكلمة "فيليستيريو" أو "فيليستور" فكلتاهما تبدآ بالمقطع "فيلو" والذى يعنى يحب أو محبة أو صديق أو حبيب، وأنهما عند سماعهما يستدعيان على الفور ويعكسان مشاهد رغبة الفلسطينيين وشغفهم بتحصيل العلم والمعرفة رغم الحرب والدمار.

إن معرفة الفلسطينيين بتاريخ قضيتهم وحقيقة عدوهم، قد دفعهم دفعًا لضرورة تحصيل العلم والمعرفة؛ حتى يستطيعوا الصمود أمام المحتل، والعمل على تحرير أراضيهم، وتوريث قضيتهم لأجيالهم. لقد صارت المعرفة وتحصيل العلم شغف وفضول لدى الفلسطينيين. إن المصطلحين "فيليستيريو" و"فيليستور" اليونانيين القديمين، خير وصف وتمثيل لروح الفلسطينيين، المُحبين للعلم والمعرفة والشغوفين بهما، هؤلاء الفلسطينيون الذين يعرفون أنهم بتحصيلهم العلم والمعرفة سوف تنتصر قضيتهم وتتحرر أراضيهم بإذن الله.

 

تم نسخ الرابط