و الأخيرة

رئيس التحرير
محمود الضبع

بدأت من عهد النبى صلى الله عليه وسلم

حكايات موائد الرحمن فى الدول العربية بين القصور والاحياء الشعبية

موقع الصفحة الأولى

قبل بداية شهر رمضان من كل عام، تستعد معظم الشوارع والميادين في مختلف المدن المصرية ومعظم المدن العربية والإسلامية، لتجهيز خيام إفطار الصائمين، التي يطلق عليها "موائد الرحمن"، وهي موائد الطعام المفتوحة للعامة والبسطاء من المارة الذين تصادف وجودهم بالشارع وقت أذان المغرب، ليجتمعوا على وجبات إفطار تكفل بها مساهمات أهل الحي والمقتدرين من الناس لكسب الثواب والأجر.
وبحسب الكثير من المصادر التاريخية، فقد كانت البداية الحقيقية لظهور موائد الرحمن منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حين قدم إليه وفد من الطائف وهو في المدينة، واعتنقوا الإسلام، واستقروا معه لفترة بعد ذلك، فكان النبي يرسل إليهم وجبات الإفطار والسحور مع الصحابي بلال بن رباح.
وقد سار الخلفاء الراشدون على هذه السنة النبوية، فكان الخليفة عمر بن الخطاب يقيم الدور لضيافة وإفطار الصائمين، وتطورت الفكرة لتصبح تدريجياً على ما هي عليه الآن في الدول العربية المختلفة.
وتعود عادة إقامة موائد الإفطار في المدينة المنورة ومكة المكرمة بسبب إقامتها لأول مرة في المسجد النبوي بالمدينة لإفطار الصائمين من المسلمين الزائرين للمسجد خلال شهر رمضان.
كانت بعض الموائد في المدينة المنورة محصورة بشكل تقليدي ضمن عائلات مدنية معينة تعاهدت عليها على مدار الأجيال، حتى إن هناك بعض الأماكن المخصصة لتبرعات عوائل معينة من قبل رئاسة المسجد النبوى تقديراً لأقدميتهم في تفطير الصائمين، حتى الآن.

موائد الديار المصرية


عدد كبير من المصادر التاريخية أيضا يؤكد أن، مصطلح "مائدة الرحمن"، وفقاً لأرجح الأقوال، بدأ في عهد الفقيه وعالم الديار المصرية الليث بن سعد بن عبدالرحمن، في عهد الدولة الأموية.
فقد كان الليث بن سعد يساعد الفقراء والمساكين بطرق عديدة، وإحدى الطرق التي سنها لمساعدة المساكين كانت بإنشاء موائد طعام خارج منزله للفقراء وعابري السبيل وخاصة في رمضان، ومن هنا بدأ المسمى الحقيقي للمائدة على اسم جده "عبدالرحمن"، وقد استمر فيها حتى وفاته عام 791 ميلادياً.
وعمل أبوالعباس أحمد بن طولون، أمير مصر المملوكي ومؤسس الدولة الطولونية الممتدة بين مصر والشام، على تطوير مبدأ مائدة الرحمن لإفطار الصائمين؛ فأقام عام 880 ميلادياً، أول مائدة رحمن فى مصر وسماها "السماط" أو "الأسمطة"، وأمر بمواصلة إعداد هذه المائدة طوال أيام شهر رمضان.
واستضاف ابن طولون في موائده القادة والتجار والأعيان، وفي إحدى خطبه حاول حث المقتدرين من الناس على إقامة الموائد للفقراء والمحتاجين، وقال: "لم أجمعكم حول هذه الأسمطة إلا لأعلمكم طريق البر بالناس، وأنا أعلم أنكم لستم في حاجة إلى ما أعده لكم من طعام وشراب، ولكنني وجدتكم قد أغفلتم ما أحببت أن تفهموه من واجب البر عليكم في رمضان، ولذلك فإنني آمركم أن تفتحوا بيوتكم وتمدوا موائدكم وتهيئوها بأحسن ما ترغبونه لأنفسكم فيتذوقها الفقير المحروم"، وأخبرهم أن هذه المائدة ستستمر طوال أيام شهر رمضان.

موائد دار الفطرة


وقد واصل الخليفة المعز لدين الله الفاطمي في عهده القصير الممتد منذ عام 972 وحتى 975 ميلادياً، إقامة الموائد في شهر رمضان أيضاً، وكانت مخصصة في البداية لزائري جامع عمرو بن العاص، ثم ما لبثت أن امتدت لترحّب بجميع المحتاجين. ووفقاً لبعض الروايات، كان يخرج من قصر الخليفة الفاطمي قرابة الـ1100 قِدر من جميع أنواع الطعام لتُوزع على الفقراء، وسُمِّيت مائدته بـ"دار الفطرة".
وقد وصل طول بعض هذه الموائد المُعدة يومياً ما يتخطّى 150 متراً لاستيعاب أعداد الصائمين، وذلك قبل أن تتراجع فكرة مائدة الرحمن الرمضانية بشكل تدريجي في عصر المماليك والعثمانيين بسبب الحروب.
ووفقاً لعدد من الدراسات الأثرية والتاريخية، فإن دور موائد الرحمن الذي نعرفه في شكله اليوم يرجع تحديداً إلى الولائم التي كان يقيمها الحكام وكبار رجال الدولة والتجار والأعيان في عهد الفاطميين وكان يطلق عليها "سماط الخليفة"، وأن الخليفة المعزّ كان حريصاً على حضور رؤساء الدواوين والوزراء موائد الرحمن التي ينظمها.
وعملت "دار الفطرة" على إعداد الكعك وتوزيعه في نهاية شهر رمضان وخلال أيام العيد على كل أهالى القاهرة، والتي كانت في ذلك الوقت مدينة الخليفة وحاشيته وفرق جيشه.
وترجح الروايات التاريخية بأن الخليفة الفاطمي العزيز بالله الفاطمي، كان هو أول من قام ببناء دار الفطرة خارج قصر الخلافة بالقاهرة، لصناعة ما يُحمل إلى الناس في العيد من حلوى.
وقد امتدت عادة إقامة الموائد الرمضانية في قصور الحكم على مدار كل العصور المصرية، حتى عهد محمد علي باشا وأسرته من بعده، حتى إن الملك فاروق، كان يقيم الولائم الرمضانية في قصر عابدين ويستضيف فيها عامة الناس من أطياف الشعب المختلفة.


موائد القوات المسلحة


وفي القرن العشرين بدأت الموائد الرمضانية في العودة مرة أخرى تحت رعاية حكومية لبنك ناصر الاجتماعي، الذي كان يقيم مائدة بجوار الجامع الأزهر، ويفطر فيها أربعة آلاف صائم من أموال الزكاة.
القوات المسلحة المصرية، كان لها أيضا دور كبير في توزيع عدة ملايين من الوجبات الجافة على الأسر الفقيرة مع حلول شهر رمضان من كل عام، فضلا عن موائد الإفطار التي تقدم الوجبات الساخنة للمواطنين.
وامتدت الموائد التي ينفق عليها الأثرياء والميسورين في مصر جيلا بعد جيل في معظم الشوارع والميادين المصرية، لتؤكد أن رمضان هو شهر الخير للجميع.
وقد ثبتت إقامة موائد الرحمن في دول عربية أخرى أيضاً؛ ففي بغداد، ومع وصول هارون الرشيد إلى سدة الخلافة العباسية، اعتاد طيلة حكمه الذي استمر 23 عاماً حتى وفاته عام 809 ميلادياً، إقامة موائد الرحمن طيلة شهر رمضان في حديقة قصره، وكان يتنكر في ملابس بسيطة ومتواضعة، لكي يتمكن من التجول بحرية بين الصائمين ويسألهم عن أحوالهم.


 في الدول العربية


وعلى غرار موائد الرحمن التي انتشرت في مدن مصر المختلفة، وبعض الدول العربية الأخرى، تعمل كثير من المقاهي والمطاعم في المغرب العربي مثلاً، على تحضير وجبات لتفطير الصائمين غير المقتدرين مادياً خلال شهر رمضان.
ففي المغرب، تنصب خيام في بعض الأحياء والمدن تضم كراسي وطاولات، يكتب عليها "خيام الرحمن"، يتوفر من خلالها وجبة الإفطار المجانية طيلة الشهر. 
أما في دول الخليج العربي، فتقوم الجمعيات الخيرية بتخصيص بنود رئيسية من التبرعات لصناديقها من أجل إقامة وترتيب خيام تفطير الصائمين خلال شهر رمضان.
وفي السعودية ، قطر، الكويت، والبحرين تنتشر عادة نصب الخيام البيضاء أمام بيوت العائلات الكبيرة في العاصمة الدوحة، وتُعد أحد طقوس الشهر. إلا أن خيام رمضان في قطر لا تستهدف المسلمين فحسب، بل تحرص العائلات والمؤسسات الخيرية على إعداد ولائم للعمال الأجانب من الديانات الأخرى أيضاً.

تم نسخ الرابط