
في زمن تضيع فيه البوصلة بين الفهم السليم والتصيد، وبين احترام الرموز ومحاولة تصدر المشهد، خرج الجدل من ثكنات الفكرة إلى زوابع الضجيج، بمجرد أن عبر الدكتور سمير فرج، المفكر الاستراتيجي، عن رأيه خلال حوار إعلامي جمعه بالإعلامي أحمد موسى، فجأة، انقلبت الكلمات على رأسها، وبدأ البعض يقحم الرجل في سجال لا يستحقه، ويُحاكمه لا على ما قال، بل على ما ظنوه قاله.
لكن من المهم أيضًا، قبل التوضيح وسط هذا التوصيف الواقعي، أن نسجل رأياً شخصياً – من موقع الضمير الأخلاقي والتحليل السياسي– أن ما حدث في 7 أكتوبر لا يمكن اعتباره انتصارًا أو بطولة، بقدر ما هو تقدير استراتيجي خاطئ، بل ومثقل بازدواجية أخلاقية، حركة حماس لم تُدر بشكل دقيق حجم التبعات الإنسانية والسياسية والعسكرية لذلك القرار المفاجئ، وهو ما تسبب – بلا شك – في مآسٍ هائلة دفع ثمنها المدنيون في غزة أولًا، ثم فلسطين بأكملها، وربما القضية، وهو ما أوضحته في مقال سابق بعنوان ( حماس وكلمات مكتومة).
دعونا نتفق أن هدم الرموز هو أول مسمار في نعش الأوطان، فحين يتحول القادة الحقيقيون إلى أهداف سهلة للانتقاد والتشويه، وحين يهاجم من قدّم عمره وفكره وروحه في سبيل الوطن لمجرد أنه عبّر عن رأي موضوعي، فإننا نكون أمام خلل خطير في البوصلة الوطنية، من يدعي أن اللواء سمير فرج تجاوز أو أخطأ لأنه دعا للمرونة أو قدّر الموقف بقراءة عسكرية بحتة، إما واهمٌ لم يدرك عمق الطرح، أو خانه التعبير ولم يُحسن الفهم، أما أولئك الذين فقدوا القدرة على التحليل، وراحوا يفتشون عن جملة هنا أو تعبير هناك ليبنوا عليه اتهامًا أو موقفًا، فهم يساهمون – عن قصد أو جهل – في تقويض الثقة بما تبقى من أصوات عاقلة تعرف معنى الوطن ومعنى أن تكون محاربًا في زمن الصراخ.
القضية الفلسطينية
أعود إلى الضجة الإعلامية التي أُثيرت حول تصريحات د.فرج التى تعكس أحيانًا ميل بعض الأطراف إلى تفسير التصريحات خارج سياقها الحقيقي، من الأهمية بمكان أن يتم تناول مثل هذه التصريحات بتحليل موضوعي، يأخذ في الاعتبار خبرة القائل وسياق الحديث، بدلاً من الانجرار وراء تأويلات قد تبتعد عن الحقيقة، دعني أقولها بوضوح، ومن دون مجاملة لأحد: لم يُخطئ الرجل حين قال، من موقعه كمحلل استراتيجي، إن "حماس أحيت القضية الفلسطينية" ، لم يقل "انتصرت"، ولم يدعِ أن الحرب انتهت لصالح طرف على حساب آخر، بل كان حديثه عن التأثير السياسي والإعلامي والدبلوماسي الذي أحدثته المعركة، والمُحايد قبل المتحمس يرى ما حدث: عادت القضية الفلسطينية إلى المحافل الدولية، تحركت شوارع أوروبا، وبدأت الاعترافات البرلمانية تنهال تباعًا بحق الفلسطينيين، وكل ذلك تحت وطأة نار غزة وصمود رجالها.
فرج دعا إلى ضرورة أن تتسم حماس بقدر من المرونة السياسية، مشددًا على أهمية التكيف مع المتغيرات الدولية والإقليمية لتحقيق الأهداف الاستراتيجية، هذه الدعوة تأتي من خبرة عسكرية طويلة، حيث يدرك أن النجاح في المعارك لا يعتمد فقط على القوة العسكرية، بل يتطلب أيضًا حنكة سياسية ومرونة في التعامل مع الواقع المتغير، وحين تحدث الدكتور فرج عن ضرورة "قدر من المرونة" لدى حماس، لم يكن يُملي على المقاومة شروطًا، بل كان يُقدم قراءة رجل خَبِر فن الحرب وعاش دهاليز التفاوض، المرونة هنا لا تعني التنازل، بل تعني فهم تعقيدات المعركة التي لم تعد بندقية فقط، بل رأيًا عامًا وضغطًا دوليًا ومناورات سياسية، لم يطلب منهم الاستسلام، بل دعاهم إلى ما يفهمه كل قائد محترف: أن تعرف متى تُمسك الزناد، ومتى تمسك بخريطة القرار.
ولا داعي أن ننكر أن تصريحات فرج دائماً تثير قلق إعلامي في الداخل الإسرائيلي، نظرًا لخبرته ورؤيته الاستراتيجية العميقة، وقربه من دائرة صنع القرار، تحليلاته الدقيقة وتوقعاته المبنية على أسس علمية تجعله صوتًا مؤثرًا في القضايا المتعلقة بالأمن القومي والصراع العربي الإسرائيلي، وما جرى من ضجة حول تصريحاته لا يُعبر إلا عن شيء واحد: نحن نعيش في زمن يُحاسَب فيه الجاد على رأيه، بينما يُصفق للهايف لمجرد أنه صرخ أو شتم أو أفتى بجهل، اللواء فرج قال ما يراه بعين خبير، لا بعين هاوٍ سياسي أو ناشط موسمي، وإن كان هناك من يستحق أن يُنصت له حين يتعلق الأمر بالأمن القومي أو قضايا التحرير، فهم أولئك الذين قاتلوا حقًا، لا أولئك الذين يكتبون تغريدة ثم ينامون مرتاحي الضمير، والكارثة الأكبر أن من يُشككون لم يحملوا بندقية يومًا، ولا وقفوا على جبهة، ولم يلقوا في صحراء في مواجهة عدو، أو كانت وجوههم فريسة للعقارب وغيرهم ينامون على أسرة ناعمة، ولا عرفوا كيف يُصاغ الوعي العسكري وهيبة الوطن ويُصان الأمن القومي.
إلى صديقي العزيز ماهر فرغلي، أعرف أنك تنتمي للمثقفين الذين يعرفون قدر الرجال ويُحسنون قراءة المواقف، وبالطبع ليس المطلوب أن نتفق دائمًا مع كل رأي، ولكن المطلوب ألا نغتال رموزنا وهم أحياء، أن نسمعهم بعقل المحاور لا بعين المتصيد، اللواء سمير فرج سيظل، رغم كل شيء، نموذجًا للمحارب المثقف، الذي لا يساوم على الوطن، لكنه يعرف أن المعركة، في عالم اليوم، ليست فقط طلقة، بل وعي ورؤية وذكاء استراتيجي.
عزيز القارئي دعنا نتفق أخيراً أن ما أُثير حول حديثه، ما هو إلا زوبعة في فنجان، لا تُغير شيئًا في حقائق الميدان ولا في قيمة القائل، بل هي فقط عنوان آخر من عناوين زمن نتصدر فيه في الأمور "الهايفة"، ونترك الجوهر ليتآكله الضجيج، وأن اللواء سمير فرج لا يتحدث كسياسي يسعى للتأييد، بل كمحارب عركته المعارك ويؤمن بعقيدة وطنية ترى أن المعركة أكبر من جبهة، وأن النصر يبدأ حين نعرف متى نقاتل، ومتى نتفاوض، ومتى نلتقط أنفاسنا لنواصل السيرمن هنا، فإن احترام تصريحاته لا يعني الموافقة الكاملة، بل يعني احترام الرؤية التي تخرج من رحم المعاناة، وأما حماس، فهي مدعوة – لا بأمر، بل بنداء عقل – إلى مراجعة المسار، والبحث عن خلاص لفلسطين لا يدفع ثمنه أطفال غزة وأطلالها.