و الأخيرة

رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

 منذ أن كانت العواصم العربية تحتفل بتأسيس جامعة الدول العربية في 22 مارس لعام 1945، كان الأمل يحدو الشعوب العربية في أن تكون هذه الهيئة النواة الأولى لوحدة مصيرهم وتكتلهم السياسي والاقتصادي والثقافي، التي تضع حدًا للتفرقة وتُسهم في رفع مكانتهم على الساحة الدولية  اليوم، وبعد مرور أكثر من سبعة عقود على تلك اللحظات التاريخية، نجد أنفسنا أمام مؤسسة سياسية أصبحت كالشجرة الجافة التي فقدت جذورها في التربة العربية الصلبة  جامعة الدول العربية، التي كانت تُعتبر درعًا للأمة وصوتًا جامعًا لطموحات شعوبها، باتت الآن أقرب إلى الهيكل المهدم، تسعى جاهدة للمضي قدمًا في عالم متغير، لكنها تبدو عميقة الجروح، وعاجزة عن الالتئام أو النهوض  إنها في صراع مرير مع الموت السياسي، تتخبط بين الأزمات التي لا تُعد ولا تُحصى، في حين يعجز أعضاؤها عن تجاوز خلافاتهم الداخلية.

ما بين قضايا مدمرة تعصف بالمنطقة من المحيط إلى الخليج، وما بين صراعات لا نهاية لها، تكشف جامعة الدول العربية اليوم عن عجزها التام في لعب الدور الذي أنشئت من أجله  إن تآكل قوتها وتراجع تأثيرها يُشبه مرضًا مزمنًا يصيب قلب الأمة، فكيف لا وهي اليوم عاجزة عن مواجهة تحديات العصر واحتواء الأزمات السياسية التي تمزق أقطارها؟ إن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه اليوم، هو: هل يمكن لجامعة الدول العربية أن تستعيد عافيتها في زمن الانقسامات؟ أم أن المسألة أصبحت أشبه بمحاولة إحياء كائنات ميتة؟

- شيخوخة جامعة الدول العربية: هل انتهت أيام الحلم العربي؟

فجامعة الدول العربية لم تأسس عبثًا بل تأسست من أجل فكرة راسخة تقوم على "وحدة المصير العربي"، وهدف سامي للغاية وهو تعزيز التعاون تعاون الدول الأعضاء في المجالات المختلفة، مثل السياسة والاقتصاد والثقافة  وتضم في رحابها 22 دولة عربية كأعضاء دائمين وهذه الدول هي:( مصر،  الجزائر، تونس، البحرين، العراق، الأردن، الكويت، لبنان، سوريا، فلسطين، ليبيا، المغرب، البحرين، السودان، قطر، الأمارات العربية المتحدة، البحرين، اليمن، سلطنة عمان، المملكة العربية السعودية، السودان، الصومال، موريتانيا، جيبوتي، جزر القمر )، ومن المتعارف عليه أن فكرة جامعة الدول العربية هي فكرة عربية أصيلة نشأت من حراك قومي ورغبة في لمّ كيان الدول العربية في فترة مقاومة الاستعمار وأن هذا التيار بدأ باكراً ربما منذ مطلع القرن العشرين أو قبل ذلك، إلا أن هناك من يرى أن صاحب فكرة تأسيس جامعة الدول العربية هو أنطوني إيدن، وزير خارجية بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية  في خطاب ألقاه أمام مجلس العموم البريطاني في فبراير 1943، أعرب عن تأييد بلاده لإنشاء كيان يحقق التقارب بين الدول العربية ويعزز التعاون بينها، لاحقًا، تبنت الدول العربية هذه الفكرة، وأجرت مشاورات بقيادة مصطفى النحاس باشا، رئيس وزراء مصر آنذاك، ما أدى إلى توقيع بروتوكول الإسكندرية في عام 1944، والذي وضع الأسس لإنشاء جامعة الدول العربية، وتم تأسيسها رسميًا في 22 مارس 1945.

ولكن مرور السنين أظهرت أن هذه الفكرة لم تلبث أن تبخرت في الهواء، لتحل محلها حسابات المصالح الضيقة والصراعات الإقليمية المدمرة. بينما كانت القمم العربية في أيامها الأولى تحتفي بالقيم العليا للسلام والوحدة، أصبحت اليوم مجرد لقاءات شكلية يتم خلالها إصدار بيانات شجب واستنكار لا تغير شيئًا على الأرض. إن ما كان يُعتبر حافزًا للوحدة في زمن مضى، أصبح الآن مجرد كابوس من الانقسامات ، تُظهر السنوات الأخيرة بشكل جلي حقيقة أن الجامعة قد تجاوزتها الأحداث فمن حرب الخليج الثانية إلى الحروب الأهلية التي مزقت سوريا واليمن وليبيا، مرورًا بالتدخلات العسكرية الأجنبية، كانت جامعة الدول العربية مجرد شاهد على هذه التطورات، بل في أحيان كثيرة، أصبحت طرفًا في النزاعات نفسها  بل إن الهياكل الإدارية والبيروقراطية الثقيلة التي تعاني منها الجامعة قد أثبتت عدم قدرتها على مواكبة التغيرات السريعة التي تجتاح المنطقة، ليبدو أن مرحلة التأثير السياسي والديبلوماسي قد ولى عهدها.

 التشرذم العربي: الجامعة عاجزة عن توحيد الصف

على مدار العقود الماضية، شهدت المنطقة العربية تفككًا وانقسامًا سياسيًا غير مسبوق، حتى في القضايا التي يُفترض أن تكون محط إجماع بين دول الجامعة، مثل القضية الفلسطينية، والتي كانت وما تزال تُعتبر القضية المركزية ومع ذلك، شهدنا تطورات غير مسبوقة في مواقف بعض الدول العربية، مثل تطبيع الإمارات والبحرين مع إسرائيل، وهو ما يعكس انقسامًا حادًا في الموقف العربي من القضية الفلسطينية، ويضع الجامعة في موقف ضعيف للغاية.

أضف إلى ذلك، أن النزاعات المسلحة الداخلية بين الدول العربية نفسها – مثلما هو الحال في سوريا واليمن وليبيا – قد فاقمت من هشاشة التماسك العربي  ولم تعد جامعة الدول العربية تمثل الواجهة القوية لدرء المخاطر التي تهدد الأمن القومي العربي، بل أصبحت أحيانًا أداة لتوسيع الفجوات بين الدول الأعضاء، بدلاً من توحيد المواقف  هذا الانقسام الداخلي العميق، والذي يعكسه عدم قدرة الجامعة على التدخل الفعّال في تسوية هذه النزاعات، يطرح تساؤلات كبيرة حول فاعلية هذا الكيان في جمع الشتات العربي.

 شيخوخة الكيان

أنه هنا لا بد من التساؤل: هل يُعقل أن تظل جامعة الدول العربية، التي اجتمعت الدول العربية في رحابها يومًا ما، مرآةً للوحدة والقوة السياسية، تُصارع اليوم في خضم الصراعات التي تنخر جسدها دون قدرة على مواجهة تحديات العصر؟ هذا التساؤل يظل يتردد في أروقة السياسة العربية والعالمية على حد سواء  فالجامعة التي كانت، في بداية نشأتها، تقف على أبواب المستقبل العربي الواعد، أصبحت اليوم أداة فاقدة للفاعلية، بل باتت تمثل عبئًا ثقيلًا على الأمة العربية.

أحد الأسباب الرئيسة لهذا الانحدار هو الجمود السياسي، الذي تعيشه الجامعة منذ عقود  فقد كانت التكتلات العربية في الماضي تخضع لتوازنات القوى الكبرى، وما لبثت أن تحولت إلى "منتدى" لتبادل وجهات النظر دون نتائج ملموسة في الوقت الذي كانت فيه قضايا الشعب الفلسطيني تشكل جوهر اهتمام الجامعة، أصبح الآن هذا الملف ليس أكثر من بند مكرر في أجندة اجتماعاتها  وفيما يواصل الاحتلال الإسرائيلي انتهاكاته، يبدو أن الجامعة نفسها قد أصابتها الشيخوخة الفكرية والعملية، حيث باتت غير قادرة على تحريك الأمور ولو بالكلمة.

تزامنًا مع هذه الشيخوخة السياسية، تغرق المنطقة العربية في أزمات دموية مستمرة: من الحرب في سوريا واليمن إلى النزاع في ليبيا، مرورًا بالفوضى التي تعصف بالعراق، وتحديات الأمن في البحر الأحمر وبينما تزداد الهوة بين الأعضاء، ويغرق كل منهم في همومه الخاصة، تُركت قضايا أخرى، مثل الأمن الإقليمي والاستقرار الداخلي، بلا حلول  وهذه الفجوة بين الغاية التي أُسست من أجلها الجامعة والواقع الذي تعيشه الآن، تشير إلى أن هذا الكيان لم يعد قادرًا على الوفاء بوعده.

 صراع مع الموت السياسي

إذا كانت هناك من صفة تليق بحالة جامعة الدول العربية اليوم، فهي “صراعها مع الموت السياسي”  هذا الموت لا يقتصر على ضعف أدائها، بل يتجسد أيضًا في تآكل قوتها في محيطها العربي، وأمام الضغوط الدولية  فقد أصبحت الجامعة تمثل انعكاسًا لصراعات الداخل العربي، حيث لم يعد بالإمكان التوصل إلى توافقات حقيقية بشأن قضايا تُعتبر في غاية الأهمية للأمة بأسرها. لم يكن ضعف الجامعة مرتبطًا بالأداء الفردي لبعض أعضائها، بل كان تجسيدًا لمعضلة فكرية وسياسية أشمل، وهي كيف يمكن لهيئة عربية أن تجمع بين دول متباينة ومتفرقة، تتفاوت أولوياتها السياسية والاقتصادية وتختلف مصالحها الوطنية؟

ورغم الجهود المتكررة لعقد القمم العربية، إلا أن الفشل كان حليفها في كل مرة  فقد تحولت هذه الاجتماعات إلى مجرد تقليد روتيني، يفتقر إلى الأفكار الجديدة أو إلى القرارات الحاسمة. كما أن الفجوة بين الأنظمة العربية نفسها أصبحت أكثر اتساعًا، مع زيادة التدخلات الإقليمية والدولية التي أثرت على التوازنات العربية. ففي الوقت الذي يجب أن يتوحد العرب فيه لمواجهة التحديات المشتركة، نجد أن التنافس على النفوذ والمصالح الضيقة أصبح هو السائد إن الفشل في معالجة الملفات الكبرى، مثل القضية الفلسطينية أو الأمن الإقليمي، يعكس حجم العجز الذي تعاني منه الجامعة. وقد تراجعت قدرتها على اتخاذ قرارات مؤثرة، ما جعلها تتحول إلى "شاهد زور" على التحولات الجيوسياسية التي تكتنف المنطقة.

 المخاطر التي تهدد الجامعة: تفكك أم فناء؟

إن التحديات التي تواجه جامعة الدول العربية في الوقت الراهن لم تعد محصورة في قضايا سياسية وإيديولوجية فحسب، بل تتعداها إلى تهديدات وجودية قد تعصف بالكيان ذاته. فالمخاطر الكبرى التي تواجهها الجامعة تشمل:

 التدخلات الإقليمية والدولية

أصبحت المنطقة العربية ساحة لصراع القوى الكبرى، من الولايات المتحدة إلى روسيا، مرورًا بالقوى الإقليمية مثل إيران وتركيا هذه التدخلات تزيد من تعقيد الأزمات العربية، وتجعل من الصعب على جامعة الدول العربية أن تضع سياسة موحدة للتعامل مع هذه التداعيات.

الصراعات الداخلية العميقة

الحروب الأهلية في سوريا واليمن وليبيا ليست سوى مثال على عمق الانقسام العربي. في ظل هذه الأزمات، تجد الدول العربية نفسها في معسكرات متنافسة، مما يزيد من الفجوة بين مواقفها. ولقد أظهرت هذه النزاعات أن الجامعة عاجزة عن فرض حلول من شأنها أن تضع حدًا لهذه الصراعات.

 تراجع التأثير العربي على الساحة الدولية

فقدت الجامعة قدرتها على التأثير في القرارات العالمية الكبرى. كان من المفترض أن تكون الجامعة الصوت الجماعي للعالم العربي في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، ولكنها لم تستطع توجيه ضغوط حقيقية في القضايا المصيرية مثل القضية الفلسطينية أو الأمن الإقليمي.

- هل من أمل في التجديد؟

على الرغم من حجم التحديات التي تواجهها جامعة الدول العربية، يبقى السؤال المحوري: هل من أمل في إحيائها؟ قد يكون الجواب معقدًا للغاية، ولكن لا بد من الاعتراف أن أي أمل في تجديد فعال لهذه الجامعة يستدعي جهدًا جماعيًا هائلًا. أولًا، يجب إعادة صياغة أهداف الجامعة لتواكب المتغيرات الراهنة. ينبغي أن تضع الجامعة في أولوياتها التماسك الداخلي والقدرة على تحريك الملفات المتعطلة، عبر تفعيل دورها في تسوية النزاعات. لا يكفي أن تكون الجامعة مجرد منصة لتبادل الآراء، بل يجب أن تتحول إلى كيان قادر على التأثير الفعلي في سياسات الدول الأعضاء، وممارسة الضغوط اللازمة لتحقيق المصالح العليا للأمة كما أن إصلاح الجامعة يتطلب إعادة النظر في آليات اتخاذ القرار داخلها، وتفعيل الهيئات التنفيذية بشكل أكبر. فمن غير المقبول أن تبقى الأزمات العربية تتفاقم بينما تظل جامعة الدول العربية في حالة من الجمود المميت. لا بد من إعادة هيكلة منطقية للجامعة تضمن مشاركة فاعلة من جميع الدول، بغض النظر عن قوتها الاقتصادية أو السياسية ، فجامعة الدول العربية حاليًا تواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على دورها الفاعل في الساحة السياسية الدولية. هناك عدة عوامل تؤثر في قدرتها على التأثير والتمثيل الفعّال في السياسة العالمية، ومنها:.

  التباين السياسي بين الأعضاء

تختلف سياسات الدول العربية بشكل كبير في بعض القضايا الإقليمية والدولية، مثل النزاع الفلسطيني، الحرب في سوريا، والتدخلات الإقليمية. هذا التباين يعوق قدرة الجامعة على اتخاذ مواقف موحدة في العديد من القضايا.

  التأثيرات الإقليمية والدولية

في ظل صعود القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، وكذلك التأثيرات الإقليمية لقوى مثل تركيا وإيران، أصبح دور جامعة الدول العربية أقل وضوحًا مقارنة بالمرحلة السابقة.

  الضعف في التنفيذ

على الرغم من أن الجامعة تمتلك العديد من المؤسسات والآليات التنسيقية، إلا أن عدم تنفيذ قراراتها بفعالية يُعد من أبرز التحديات التي تواجهها. القرارات غالبًا ما تكون غير ملزمة أو غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع.

 التحديات الاقتصادية والاجتماعية

بعض الدول الأعضاء تواجه مشاكل اقتصادية واجتماعية عميقة، مما يؤثر على قدرتها على المشاركة الفعّالة في أنشطة الجامعة. الصراعات الداخلية، مثل تلك في اليمن وسوريا، تزيد من صعوبة التنسيق والتعاون بين الأعضاء.

  تزايد دور منظمات إقليمية أخرى

مثل الاتحاد الإفريقي ومنظمة الأمن والتعاون في البحر الأحمر، التي قد تؤثر في التفوق السياسي والدبلوماسي للجامعة على الرغم من هذه التحديات، لا يزال هناك دور مهم للجامعة في بعض القضايا، مثل دعم القضايا الفلسطينية، التنسيق بشأن قضايا الأمن الإقليمي، والدعوة إلى وحدة الصف العربي. ولكن، لتحقيق تأثير أكبر، قد تحتاج الجامعة إلى إصلاحات عميقة تعزز من قدرتها على التنسيق والتنفيذ الفعّال.

جامعة الدول العربية تمثل كيانًا محوريًا في قلب العالم العربي، وفي صراع وجودي من أجل البقاء

في الختام، لا تزال جامعة الدول العربية تمثل كيانًا محوريًا في قلب العالم العربي، ولكنها اليوم في صراع وجودي، لا سيما في ظل التحديات الداخلية والخارجية التي تحيط بها. فقد أثبتت السنوات الماضية أن استمرار الوضع الراهن لا يؤدي إلا إلى مزيد من التفرقة والضعف. إذا أردنا لجامعة الدول العربية أن تستعيد دورها الحيوي، فإن هذا يتطلب إصلاحًا جادًا يبعث في هيكلها الروح من جديد، ويُعيد ترتيب الأولويات بما يحقق المصالح العليا للأمة. بدون هذا التغييرالجذري، سيبقى مصير الجامعة في طيّ النسيان، وستظل مجرد ذكرى كئيبة لهيئة كانت في يوم من الأيام رمزًا للوحدة، قبل أن تتحول إلى صورة باهتة تُذكرنا بالفرص الضائعة.

تم نسخ الرابط