الحقيقة كان حيرتى من مطلب كانط الحضور إلى القاهرة حيرة لا مبرر لها، لقد كانت المسألة بالنسبة لى حين دعوت كانط الدعوة الأخيرة تهدف إلى أن يستمع إلينا نحن من ينظمون الملتقى الدولى بمناسبة المئوية الثالثة لميلاده ومن يشاركون فيها من جامعات العالم العربى والجامعات الأوروبية من خلال قراءاتنا له وكتاباتنا عنه ومواقفنا المتنوعة حول آرائه ونظرياته، اعجابنا بها ونقدنا عليها، أى الجوانب توقفنا أمامها وأيا النصوص حللناها وأى الرؤى انتقدناها. وهو ما يستدعى حضوره ومتابعته وتحليله ورده وتوضيحه. لكن كان للفيلسوف توجه آخر. كان يريد شيئين يتعلقين بالزمان والمكان.
بالنسبة للزمان يريد معرفة ما طرأ على أفكاره ونظرياته خلال قرنين وعقدين منذ وقت وفاته حتى اليوم من الباحثين الغربيين: ألمان وأوربيين، عرب وأفارقة؛ ما هى اهتماماتهم؟ وهل تختلف الاهتمامات فى عصر سابق إلى عصر أكثر حداثة، عصر المابعديات؟ الشئ الثانى وهو الأهم يتعلق بمكان لم يزره من قبل، والمعروف أن كانط لم يخرج من مدينته التى عاش فيها عمره كله من 1724-1804 وأن كان قد تعرف على العالم خارج بلدته كونجسبرج من مصادر متعددة نجدها فيما كتبه عن الانتربوجيا والأعراق البشرية، وأن هذه هى المرة الأولى؛ التى يزور فيها مصر ولا مانع من التعرف على العالم العربى الإسلامى وأفريقيا وآسيا. وهدفه الذى صرح به لىّ كان رغبته فى معرفة العقل عندنا والنقد والدين فى حدود العقل والثورة والتنوير والسلام وكيف فهمناها وتعاملنا معها. وربما يكون السلام هو القضية الأساسية التى يرغب فى مناقشتها معنا، فالسلام هو الرد الكانطى على الحروب والصراعات وبالنسبة لمن يهمهم الأمر يعنى عندنا؛ الاستقلال والحرية والحياة خاصة فى فلسطين.
ربما يفعل كانط حين حضوره إلى بلادنا مثلما فعل سارتر، الذى أطلقنا عليه ضمير العصر حين زار مصر، مارس 1967 للتعرف على قضايانا وفى مقدمتها قضية اغتصاب فلسطين وطرد أهلها وتحولهم لاجئين فأعلن حق إسرائيل فى الوجود، ومن هنا انشغل تفكيرى وما يزال بقصية هل سيزور كانط فلسطين حيث سيطرة الكيان الصهيونى وأدعائه الحرص على السلام واهتمام الصهاينة الكبير بكتبه وترجمتهم لمشروع السلام الدائم ترجمتين. لن يكتفى كانط بمتابعتنا والاستماع إلينا، بل سيحدثنا ويناقشنا ويطرح علينا الأسئلة ويدفعنا إلى حوار معه هذا ما اتضح لى منه. هنا تكمن أهمية هذا اللقاء، وربما الإجابة عن لماذا علينا الحرص أن يتم ويكتمل هذا اللقاء ويظل هناك سؤالين هل يمكن أن يتم اللقاء؟ وكيف يتم وعلى أى صورة؟
الحقيقة أنه منذ بداية هذا العام حتى هذا اليوم لا توجد آية أجابة، فهل لنا أن نجتهد، أن نتخيل، أن نفترض على أى صورة يمكن أن تكون الإجابة على أهمية حضور كانط وحوارنا معه، فى العبارات الأخيرة بداية الإجابة كما يظهر فى أفعال نجتهد، نتخيل نفترض وتفسير ذلك؛ مما يعنى أننى سأطلب من المشاركين أن يحددوا لنا المخطط العام للقضايا التى علينا تناولها وعرض القضايا المختلفة التى توقفوا عندها، أن نناقشها وفق أولوياتها بالنسبة لنا اليوم بمعنى أننى لن اكتفى فقط بعرض تصورى الخاص.
سيتحدث الزملاء عن السلام عند كانط مثلما يتحدثون عن صورة كانط فى العربية وفى الثقافات المختلفة فى الفرنسية، فى أفريقيا؛ فى طهران، سيتوقف البعض عند قضية عنصرية كانط ويزداد الاهتمام بالدراسات المقارنة بين كانط والفلسفة الإسلامية خاصة فى مجال الأخلاق والدين وهو نفس الامر فيما يتعلق بكانط والفكر العربى المعاصر بكافة اتجاهاته وتياراته حيث يظهر الحوار : الاتفاق والاختلاف بينه وبيننا، هنا علينا أن نتوقف لبيان ذلك وهو ما نتناوله سوياً فى الصباح.
اسيتقظت فى الصباح بعد قراءات متعددة لمقالات تصفحتها فى المساء فى الرد على هابرماس وعلى الرغم من أن معظمها من مفكرين وكتاب كانوا من المتحمسين له ولفلسفته منهم من ترجم أعماله أو درسها أو ساعد من خلال توليه لأحد أكبر المراكز البحثية والنشر لتقديم كتبه للقارئ، معظم هذه الكتابات يدينه ومنها من يطالب وفق عنوان مقاله باللانظلم هابرماس؛ الذى يمثل تحول وانحياز واضح للاستعمار الاستيطانى الصهيونى لفلسطين تكفيراً عن ذن لم يرتكبه الفلسطينيون، استيقظت محاولاً ان ابعد من ذهنى بعض الرؤى والأفكار ولا أقول الأحلام؛ لأننى لا أعلم أكانت حلم أم حقيقية.
هل هو لقاء حدث بالأمس.. بجوار النيل مع كانط أم خيال لحلم أتمنى تحقيقه أنا ابن النصف الأخير من القرن العشرين وبداية القرن الذى يليه وكانط ابن القرن الثامن عشر، يا له من حوار دار حول مجموعة من المصطلحات لا أدرى أكان الحديث حولها فلسفى نظرى أو حديث عن وقائع حية معاشة. كانت هذه العبارات التى دار حولها الحوار: رأس الحكمة، العاصمة الجديدة، العلمين، الدين العام.
فيلسوف التنوير
وهى عبارات لها فى ذهنى معانى متعددة تختلف عن معناها عند فيلسوف التنوير. رأس الحكمة هى مشروع للمستقبل على أرض مصر ورأس الحكمة عند كانط هو النقد، والعقل، رأس الحكمة مصدر للنقد عند كل منا، ونفس الأمر بالنسبة للعاصمة الجديدة، التى ذكرت الفيلسوف بما قدمه تحت عنوان "مقدمات مستقبلية لكل ميتافيزيقا جديدة تريد أن تكون علما" وهى مسعى كانط الأساس، الذى اختلف الباحثون حول هل حقيقة غاية الفيلسوف فعلياً التجديد أم اكتفى بالنقد ورفضهم القديم؟ لكن مما لاشك فيه أن العاصمة الجديدة وما يهدف إليه كانط يشتركان فى كونهما بناء، عند كانط (بناء العقل النظرى المحض) وعندنا بناءاً جديداً لعالم جدير مغاير للعالم القديم.
هنا سألنا عن العالمين فتحدثت عن تاريخها والأحداث العالمية التى حدثت فيها وموقعها وجمال طبيعتها وعن طريقها صار العالم عالمين والعالمين عند كانط هو عالم الفينومينا (الظواهر) والنومين الحقائق وهو ونحن ندرك ما الظواهر وما الحقائق والفرق بينهما، لكن الكثيرين ربما لا يدركون الفارق وتختلط لديهم الأمور وهو ما يظهر بوضوح فى حديثه عن الدين. وهو لا يقصد ديناً محدداً بل يقصد الدين الشامل العام، والدين العام عنده هو ما يكون فى حدود العقل، هنا تنبهت إلى فهمى المخالف لما يقصده كانط، فالدين العام كما أفهمه هو الفارق الكبير فى ميزانيات الدول بين الدخل وما تتطلبه مشاريعها ومتطلبات أبناءها لتحقيق الحياة الكريمة والذى تفترضه من غيرها ويكون هناك من ينظم العلاقة بينها وبين أصحاب الدين وهو البنك الدولى، أى أن الدين العام عند كانط يخضع للعقل وحده وفى البلدان النامية يخضع لصندوق النقد الدولى وحده.
وشعرنا للتو، حين تواجهنا وجها لوجه وابتسمنا كأننا اكتشفنا فى وقت واحد حقيقة ما نعبر عنه، نحن نعبر عن "الفينومين" وهو يتحدث عن "النومين" هل يمكن أن نلتقى؟ نقرب بين الفينومينا والنومينا ونوحد بينهما، هذا ما علينا القيام به أى أن علينا أن نمارس النقد على صاحب النقد وان يمارس التنوير على من هم فى حاجة إلى تنوير، أى أن ننتقل من النقد إلى التاريخ وهو ما سنقوم به.