لا نظن أن الجدال سيتوقف قريبا عن عملية تفجير آلاف من أجهزة الاستدعاء حروب " البيجر "وأجهزة الاتصال اللاسلكى " ووكى توكى " التابعة لحزب الله ، فالوقت محجوز للصدمة وربما للذهول، واحصاء الخسائر البشرية بالآلاف بين شهيد ومصاب ، وعلى اتساع مناطق تواجد "حزب الله" فى لبنان وفى سوريا ، فقد بدت العمليات " الإسرائيلية " التكنولوجية " هوليوودية " بامتياز، وأظهرت عمق الاختراق المريع لتنظيمات الحزب الأمنية ، ولابد أن قيادة " حزب الله " تدرك فداحة ما جرى ، وما يمكن أن يستجد بعده من ضربات إلكترونية مباغتة ، قد تقعد "حزب الله" عن رد سريع ، فيما يتوارى الشريك والراعى الإيرانى ، ويعجز حتى تاريخه عن رد مكافئ على عملية اغتيال الشهيد " إسماعيل هنية " فى شمال " طهران " ، بينما اكتفى " حزب الله " برد رمزى على عملية اغتيال القيادى " فؤاد شكر " فى ضاحية " بيروت " الجنوبية ، وبرزت وحدها جماعة "الحوثى" اليمنية ، التى ردت على القصف " الإسرائيلى " لميناء " الحديدة " ، وقصفت " تل أبيب " بصاروخ فرط صوتى ، وردها غالبا عبر إيران ، وفشلت كل حوائط الدفاع الجوى الأمريكية و"الإسرائيلية" فى اعتراضه وصده بالوقت المناسب.
ورغم هول المفاجأة الصاعقة ، فقد لا يصح استسهال القفز إلى نتائج متسرعة ، ولا القول أن "حزب الله" انتهى أو أصيب بالشلل ، وإن كان ما جرى يوجب على الحزب إعادة النظر بشبكات تعاملاته فى المنطقة وفى لبنان ، فالحزب يعيش فى بيئة تبدو خيانية ، ممتدة من " إيران " المخترقة " إسرائيليا " وغربيا بالرغم منها ، وهو ما ظهر فى حوادث كثيرة ، بينها اغتيال العلماء النوويين والقادة السياسيين والعسكريين إلى سرقة ونقل الأراشيف الحساسة ، وصولا إلى حادث اغتيال "إسماعيل هنية" فى غرفة نومه ، الذى لا تزال تفاصيله غامضة ، رغم بيانات ملغزة صدرت عن السلطات الإيرانية ، فبرغم كثرة وتداخل أجهزة أمن النظام الإيرانى ، لا تبدو الإنجازات العسكرية والصاروخية والنووية الإيرانية محصنة تماما ، ولا تبدو أجهزة الأمن نفسها عصية على الاختراق ، ربما لتكاتف وتكالب أجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية و" الإسرائيلية " وبعض العربية فى العمل بالداخل الإيرانى ، وفى سياق حالة مجتمعية إيرانية عظيمة الهشاشة ، لا يشكل فيها "الفرس" سوى أقل من نصف السكان ، بينما تبدو القوميات الأخرى الإيرانية فى أحول تحفز ، وقد لا تمانع الكثير منها فى عمل أى شئ لتحطيم النظام المنغلق على مذهبيته الشيعية الصارمة وطبعه الفارسى الغالب ، وقد تلعب الشيعية دورا فى تماسك إيران متعددة القوميات موحدة المذهب غالبا ، لكنها لا تقدم ضمانا أكيدا ضد الاختراق الخارجى ، وبالذات مع مظالم تاريخية ثقيلة لحقت بالقوميات غير الفارسية ، نتج عنها تشكيل فصائل تمرد قومى ، يزداد نشاطها فى أحيان ، وتشكل مددا لا يكاد ينفد من المستعدين لتقبل الاختراق الخارجى ، واعتباره عونا لها ضد طغيان سلطة "طهران" ، وربما تقبل العمل الجاسوسى نفسه خدمة للشياطين الكبرى والصغرى.
ومع القسوة الدموية المفرطة فى ممارسات النظام ، وعجزه عن مجاراة مطالب النساء والشباب والفئات ذات الحس الليبرالى ، مع ضوائق اقتصادية واجتماعية متفاقمة ، تحتدم اختناقاتها مع آلاف العقوبات الأمريكية والغربية على النظام ، الذى نجح فى تطوير صناعة عسكرية بالذات ، وفى صور من التحايل والالتفاف الذكى على العقوبات ، لكنه ظل قاصرا عن الوفاء بوعوده الكبرى ، رغم تمتع إيران بمراد طبيعية وثروات طاقة هائلة ، وتلك كلها موارد لأوضاع قلقة ، يسهل معها تجنيد الجواسيس فى البيئة الإيرانية ، مع إدمان عادات " التقية " ، التى زحفت من مجال العادات المذهبية إلى الممارسات السياسية والأمنية ، وإذا أضفنا لذلك كله ، ما هو معلوم من التفوق التكنولوجى للغرب المعادى ، وبضمنه "إسرائيل" طبعا ، نجد أن الخرق الأمنى فى إيران يتسع على الراتقين ، وتصدمنا حالات الانكشاف ، التى تواترت وتضاعفت دواعيها مع الزحف الإيرانى غربا إلى ساحات عربية محطمة ، من العراق إلى سوريا وإلى لبنان حيث "حزب الله" ، ولبنان تاريخيا ساحة خطرة ، ونظامه السياسى الطائفى لا يبنى دولة ، بل هو أقرب لشراكة بين متشاكسين ، ولكل طائفة كبرى أو صغرى سهم معلوم ، ولكل طائفة جغرافيا تخصها وخطوط تماس مع الآخرين ، وقد كان لبنان دائما ساحة مثالية لعمل أجهزة المخابرات الكبرى والصغرى ، وثمة جماعات وأحزاب لبنانية عملت وتعمل فى خدمة الكيان " الإسرائيلى " ، رغم أن قانون " الدولة " يحرم ويجرم كل اتصال بكيان العدو ، لكن عملاء "إسرائيل" فى لبنان أكثر من الهم على القلب ، وإن كانوا يتخفون بخدمتهم للعدو وراء ستار كثيف من العداوة لحزب الله ، وكراهة التضخم العسكرى للحزب ، وتحكمه كما يقولون بقرار الحرب والسلم ، وكما يوجد أصدقاء لحزب الله من كافة الطوائف اللبنانية ، فإن جماعات المتربصين تبدو أكثر ، ولا يتخفون ولا يخجلون من تعاونهم العلنى المباشر مع أصدقاء ورعاة "إسرائيل" الغربيين والعرب، وفى هذه البيئة الداخلية الملغومة يعمل حزب الله ، وقد بذل الحزب جهدا مضنيا لحماية أسراره وسلاحه ، وأنشأ جهاز اتصالات يخصه منفصلا عن الشبكة اللبنانية العامة ، تماما كما تفعل الجيوش المحترفة ، لكن بيئة الاختراق الخارجى وصلت على ما يبدو إلى شبكته الخاصة التى كانت مؤمنة .
الدفع بالثقل العسكرى
ولا يعنى ما جرى من اختراق شبكة اتصالات " حزب الله " ، أن كل شئ صار مستباحا ومكشوفا داخل الحزب ، وإن كان المعنى ، أن المخاطر تعاظمت ، وأنه قد يكون على الحزب اليوم ، أن يحمى أسراره الداخلية من أصدقائه كما من الأعداء ، وفى عملية تفجير أجهزة "البيجر" ، تبدو صور التورط متعددة ، من أول الشركة المصنعة للأجهزة ، التى قيل أنها من "تايوان" ، وتنصلت من جرم تفخيخ الأجهزة بقنابل صغيرة جدا ، ورمت التهمة المحتملة على وكيل أوروبى ، ولكن بقية السلسلة الطويلة ظلت ملتبسة ، وفيها احتمالات لمشاركة جهات تجارية صديقة ، ولتقصير مفزع من داخل "حزب الله" نفسه ، من الذين استلموا الأجهزة الموبوءة دون فحص كاف ، والذين نقلوا "الشيفرات" وكلمات المرور لأجهزة الاستخبارات "الإسرائيلية" ، والله وحده يعلم كم شيئا آخر نقلوا أسراره ؟، وفى سياق حرب متصلة على الحدود بين "حزب الله" وكيان الاحتلال ، أثبت فيها "حزب الله" إخلاصه لمبدأ وحدة ساحات المقاومة ، وتتدحرج عناصرالحرب اليوم إلى معنى آخر ، يكاد يستبدل أدوار الساحات بعد العام الأول ، ويحول حرب إسناد خاضها "حزب الله" إلى جبهة الحرب الأساسية ، بينما قد تتحول جبهة "غزة" إلى معنى الإسناد ، وهو ما يظهر فى خرائط توزيع وانتقالات جيش الاحتلال اليوم ، والدفع بالثقل العسكرى الأكبر من جنوب الكيان إلى شماله ، وهو ما قد يعنى ببساطة أن الدور قد يجئ على " حزب الله " ، الذى لا تجوز الاستهانة بقوته ، ولا بسوابق أعماله المضيئة فى حروب المقاومة ضد كيان الاحتلال ، الذى حاول تجنب الدخول فى حرب شاملة مفتوحة مع " حزب الله " ، واستعاض عنها كثيرا بعمليات الاغتيال وحروب الاختراق الالكترونى ، لكن حروب التكنولوجيا مهما تعاظمت ، لن تحسم نزاعا فوق الأرض ولا تحتها ، وعند لحظة الصدام والقتال المتلاحم ، قد لا تجدى أساطير التفوق التكنولوجى ، وهو ما بدا ظاهرا فى سيرة حرب "غزة" ، فلم ينجح السلاح الأمريكى "الإسرائيلى" المتفوق فى شئ ، إلا فى ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية للبشر والحجر والشجر ، وإلى جوار العذاب الأسطوري للناس فى " غزة " ، برزت البسالة والعناد الأسطورى لحركة "حماس" وأخواتها ، وحرمت العدو الأمريكى " الإسرائيلى " من تحقيق أهدافه المعلنة والمخفية حتى اليوم ، ولم تستطع الحملة البربرية الوحشية ، ولا مئات آلاف أطنان المتفجرات ، لم يستطع السلاح ، ولا استطاعت التكنولوجيا الحربية الأكثر تفوقا ، أن تهزم حركات المقاومة فى "غزة" ، وهى المحاصرة المحجوبة عن تلقى أى عون ، لكنها استطاعت إذلال جيش الاحتلال ، ودفعته للغرق فى رمال وأوحال وأنقاض وأنفاق "غزة" ، وبصورة جعلت القائد الإسرائيلى السابق لما يسمى "فرقة غزة" يعترف بالحقيقة ، ويعلن أن " حماس " هى التى انتصرت عسكريا فى القتال ، وأن كل مدينة يغادرها الاحتلال ، تعود إلى سيطرة "حماس" فى غضون ربع ساعة ، ونثق أن ما فعلته "حماس" فى "غزة" ، سوف يفعله حزب الله فى حرب لبنان حين يبدأ الغزو البرى " الإسرائيلى " ، فلدى الحزب قوات وأسلحة وصواريخ وأنفاق وخبرات قتال أكبر بمراحل، ولدى " حزب الله " مقدرة أعظم على تحدى فجوات التكنولوجيا ، وبوسع " حزب الله " مع تطهير بيئته الداخلية والمحيطة ، أن يهزم كيان الاحتلال بالروح الاستشهادية وبكفاءة القتال وجها لوجه ، حتى وإن خسر الحزب كما جرى حروبا مخابراتية وسيبرانية وإلكترونية ، وأصيب باختراقات مؤثرة فى عاموده الفقرى ، كان للأصدقاء فيها دورا أخطر من أدوار الأعداء الظاهرين .