
الحمدلله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى ،،،وبعد...الحكمة لغة واصطلاحاً من الأصل (حَكَمَ) وهي تفيد المنع والتقييد ، وقد أطلقت على ما يكون بحنك الفرس فيمنعه من شدة الجري ويذلله لصاحبه ، فالحكمة في حنك الدابة تمنعها من الجموح بصاحبها جموحاً يضره ، ولإبن القيم رحمه الله تعريفاً جميلاً للحكمة فقال (فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي) ، كما أن للإمام النووي رحمة الله تعريفاً للحكمة نظن بصوابه يقول (الحكمة عبارة عن العلم المتَّصف بالأحكام، المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى، المصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النَّفس، وتحقيق الحقِّ، والعمل به، والصدِّ عن اتِّباع الهوى والباطل، والحَكِيم من له ذلك).
وأحكم الأمر: أتقنه فاستحكم، ومنعه عن الفساد (1)
والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويُقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم
والحكيم: المتقن للأمور، يقال للرجل إذا كان حكيماً: قد أحكمته التجارب ، والحاكم والحكيم تطلق على الرئيس والوالي والقاضي والحكمة تقوم على النظر وتقوم على العمل ، فالحكمة القائمة على النظر هي الاطلاع على بواطن الأشياء، ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها، خلقاً وأمراً، وقدراً ، أما الحكمة القائمة على العمل هي الإتقان بعد حسن التدبر لوضع الأشياء في مواضعها الصحيحة أو كما يقال (وضع النقاط على الحروف) ، وأدوات الحكمة النظرية هي العلم والإدراك ، أما أدوات الحكمة العملية هي فعل الصواب والعدل بعد الإدراك والعلم .
فلما قال إبراهيم عليه السلام (رب هب لي حكما) أي الحكمة القائمة على النظر وأدواتها العلم والإدراك مما يمكنه من فهم الأمور فهماً صحيحاً ، ثم قوله عليه السلام (وألحقني بالصالحين) هنا الحكمة القائمة على العمل وأداتها الإتقان الذي يصل به لدرجة الصلاح ، وأصل الحكمة معرفة توحيد الله والتيقن منه ولنتدبر قول الله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام (إنني أنا الله) وهي الحكمة القائمة على النظر ، وقوله سبحانه (فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) هي تلك القائمة على العمل ولنتدبر قوله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا (28) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا (31) وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً (32) وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36) وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا (39).
نجد أننا أمام الآيات الكريمات التي تقدم لنا أنواع الحكمة ، تقوم على النهي والذي يتخلله أمر ، فمثلاً قوله سبحانه وتعالى (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) فهو أداة حصر ب (ألا وإلا) يتبعها بقوله سبحانه وتعالى (وبالوالدين إحسانا) أمر ، كما نلاحظ أن النهي في جميع الآيات قائم على حكمة النظر وهي الحكمة التي مناطها العلم والإدراك ، كما أن الأمر في جميع الآيات قائم على حكمة العمل ومناطها الإتقان والتدقيق وعليه فالحكمة عند إرتباطها بشرع الله سبحانه وتعالى ودينه هي إستنباط مراد النص الصحيح وغايات التشريع على مقصود رب العالمين ثم الإنتهاء بالنواهي والعمل بالأوامر حتى نصل لكمال الحكمة نظراً وعملاً ، لذلك قلنا أن الحكمة مع النص القرآني بمثابة الروح من الجسد وإذا إعتبرنا الحكمة أنها ضالة المؤمن إينما وجدها أخذها ، فنستعين من علماء الليبرالية وأساطينها مفهوم الملموس والمحسوس ، فنقول أن كتاب الله هو الملموس والذي تطالعه حواسنا والحكمة هي المحسوس من استقراء النص القائم بأدواته من علم وإدراك ثم عمل وإتقان ، والله سبحانه وتعالى أعلم
ولنتدبر قول الله سبحانه وتعالى (يعلمهم الكتاب والحكمة) نعرف أن المقصود بتعليمهم الكتاب هو تعليمهم النص المنزل من السماء لكي يحفظوه ويعوه ، أما الحكمة فهي الطريقة الصحيحة للتعامل مع الكتاب وفهمه كنص وحيد أوحد لا نص معه ولا نص مثله ونأتي هنا لأدوات الحكمة وهي العلم والإدراك والإتقان.
فأما العلم فهو الإلمام الذي لا جهل فيه وهو الاحاطة مع إجتماع الفهم والادراك ، والعلم اصطلاحا هو مجموع ما لدى الفرد من تراكم معرفي عن شيء ما محيطا بصفاته الكلية مدركا تراكيب جزئياته وهو من هذه الناحية يعني التحصيل والفهم أي أن العلم هو جماع الأمرين معا ، وكلما زاد حجم التراكم وأرتفع مقدار الفهم زاد حجم العلم لدى شخص ما، فالتراكم المعرفي والتحصيل دون تدبر يؤدي للإدراك والفهم وعمل يؤدي للتمكين لا يعتبر علما ولذلك قال تعالى عن أهل التوراة الذين حملوها ولم يحملوها " كمثل الحمار يحمل اسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بايات الله والله لا يهدي القوم الظالمين " فيقف العلم عند باب التراكم المعرفي فيكون مشقة على صاحبة يحمله جهدا ووهنا ولا يفقه منه شيئا فيصدق فيه تعبير رب العزة أنه حمله ولم يحمله ، حمله في عقله كمن يحمل على ظهره ولم يحمله في قلبه فهو خواء ظالم وأصل العلم من الله سبحانه وتعالى فهو القائل "علم آدم الأسماء كلها" والشاهد من الآية الكريمة أن الله خلق آدم وعلمه ثم رفع قدر العلماء من ذريته بأن قرنهم بإسمه سبحانه وتعالى في الشهادة ثم أكرمهم بخشيته في قوله "إنما يخشى اللهَ من عبادهِ العلماء"فسبحان الله الذي مَنَّ على عباده بالعلم إبتداء ، ثم رفع قدرهم بكلمة التوحيد العصماء وأكرمهم بالطاعة والخشية والنقاء والله يتفضل بالعلم على من يشاء من عباده فعندما سأل الملائكة علما لم يودعهم أسراره (قالوا سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم).
أما الإدراك فهو الإحاطة بالمدلول العام والمعنى الخاص إحاطة شمول وتدبر وفهم مع الإستنباط ، لبلوغ مقاصد النص ، إحاطة تمكن صاحبها من تفهم النصوص وتدبر المعاني الجزئية وإستنباط الأحكام ، لذلك قال الله سبحانه وتعالى (واذا جاءهم امر من الامن او الخوف اذاعوا به ولو ردوه الى الرسول والى اولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان الا قليلا) النساء ٨٣ ، ومن هنا نتفهم من النص أن مَلَكِةْ الإستنباط هي هبة من الله سبحانه وتعالى يهبها لمن يحصل العلم بإخلاص فيستطيع بها أن يبلغ علوماً جديدة يستخرجها من فهمه للنصوص ، لذلك قال الحق سبحانه وتعالى (واتقوا الله ويعلمكم الله) إتقوا الله في تحصيلكم للعلم المكتوب ليعلمكم الله العلوم الإستنباطية التي تستخرج من استقراء النصوص الشرعية والله سبحانه وتعالى أعلم.
والإتقان في العمل هو حسن الأداء القائم على الرغبة في الأداء بإِحكَام ، وهو معرفة الأدلة وضبط القواعد الكلِّيّة بجزئيَّاتها.
الإتقان سمة أساسية في الإسلام منذ ان يدخل فيه الإنسان ، وهو الذي يحدث التغيير في سلوكه ونشاطه، فالمسلم مطالب بالإتقان في كل عمل تعبدي أو سلوكي أو معاشي؛ لأن كل عمل يقوم به المسلم بنيّة العبادة هو عمل مقبول عند الله يُجازى عليه سواء كان عمل دنيا أم آخرة (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه).
والدليل على الإتقان من كتاب الله
قوله سبحانه وتعالى: في سورة البقرة وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ .
وقوله سبحانه وتعالى: في سورة التوبة وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وقوله سبحانه وتعالى: في سورة الملك الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ، وقوله سبحانه وتعالى: في سورة الذاريات وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ .
وقوله سبحانه وتعالى: في سورة النمل وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ .
فكل هذه الآيات وغيرها تؤكد على الإتقان (الإحسان في العمل) أيكم أحسن عملا ، ومتابعة العمل (وقل إعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) ، وكذلك عمل الله (هل ترى من فطور) (بنيناها بإيد وإنا لموسعون) (صنع الله الذي أتقن كل شيء) هذا والله تعالى أعلم