
التقوى لغة هي المحاذرة والاجتناب يقال (اتقي شر من أحسنت اليه) أي اجتنب شره وحاذره وقديما قال الشاعر: خل الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقي واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى.
أما التقوى شرعاً فقد اجتهد الصحابة والسلف في شرحها فقال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصفها ان التقوى هي (الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل) ، وقال احد الصالحين ان التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله ، وقال الثوري سموا متقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : المتقون الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الذنوب ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به ، وقال الحسن رحمه الله: المتقون اتقوا ما حرم الله عليهم وأدوا ما افترض الله عليهم ، وقال أبو الدرداء (تمام التقوى أن يتقي العبدُ اللهَ حتى يتقيه من مثقال ذرة وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما يكون حجابا بينه وبين الحرام فإن الله قد بين للعباد الذي يصيرهم إليه) كما قال المحاسبي (لا يحسن إيمان المرء حتى يدع بعض الحلال مخافة أن يقع في الحرام)
وحسب أبن آدم من حياته ثلاث اليقين والحذر واستحضار الاطلاع بالنظر ، اليقين أن رزقه الذي قسمه له رب العالمين لن يذهب لغيره ، فيأتيه حتمًا ولو كان في باطن الأرض أو اعماق البحر أو عنان السماء ، اليقين الذي يورث اطمئنان القلب بالمقسوم ويورث الثقة في القاسم ، يقينٌ لا يعتريه شك ، وثقة تنزع الخوف من القلب وتبقي الرهبة من الموثوق فيه سبحانه وتعالى في جلاله وعلاه قريب يسمع دعوة الداعي إذًا دعاه ، والحذر من الوقوع في الحرام ، حذر يجعله يعظم شعائر الله التي هي من تقوى القلوب ، حذر يقلب ملل الرتابة الي متعة واشتياق ، حذر يجعل من صاحبه إنسان صالحًا يحب الخير ويداوم عليه ويكره الشر ويتجنبه ، واستحضار اطلاع الرحمن علي ابن آدم بالنظر في كل وقت وحال ، استحضارًا يجعلك تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، استحضار يورث الشوق للعبادة والخشوع فيها ، ويورث حب الخير والدوام عليه والتقوى تكون لله سبحانه وتعالى ومنه على نحو قوله سبحانه وتعالى (وتزودوا فان خير الزاد التقوى واتقون يا اولي الالباب) البقرة 197 والآيات كثيرة دالة على ذلك.
التقوى
ويجب علينا تدبر قوله سبحانه وتعالى " اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلا وأنتم مسلمون" آل عمران 102 ، وقوله سبحانه وتعالى " فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا واطيعوا وانفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" التغابن 16 ، ونسأل أنفسنا هل نحن مطالبين بأن نتقي الله حق تقاته أم مطالبين بأن نتقيه سبحانه ما استطعنا؟ وللإجابة على هذا السؤال يجب ان نعلم ان للتقوى معنيان أحدهما يتعلق بعمل القلوب في باب التسليم والإذعان والآخر يتعلق بفعل الجوارح والأركان في باب الإداء والإتقان ولكي نوضح هذا المعنى ونبسطه فإن أفضل شرح للقرآن ما كان منه بالقرآن.
التقوى على المعنى الأول هي الإيمان بوحدانية الله وألا نشرك به أحدا وهي على هذا المعنى يكون الإسلام فتكون تقوى الله حق تقاته بتوحيده والإيمان به وعدم الشرك ولذلك فإن الله أردف قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته" بقوله تعالى "ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون" فيكون مقصود حكم الله بتقواه حق تقاته أن نموت على شهادة التوحيد وهي (الإسلام) . قال تعالى" يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ" فإن الله ينزل جبريل وحيا على الرسل يأمرهم بأ ينذروا عباده أنه لا إله إلا الله ، فاتقوا الله ، فمن آمن ووحد الله فقد إتقاه حق تقاته.
وقال تعالى" كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ() إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ() إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ()فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ()وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ()فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ()" الآيات من 105 : 110 سورة الشعراء
وقال تعالى" إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ()إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ()فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ()وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ()أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ()وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ()وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ()فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ()وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ" الشعراء 126 : 132 وكل ذلك يحمل على معنى التوحيد وهو عموم رسالة الرسل كلهم ، والتقوى بمعنى الإيمان والإسلام والتسليم لرب العالمين وتوحيده جاءت في آيات كثيرة نذكر منها على سبيل المثال وصية كل الانبياء لقومهم ولم يحيد عنها نبي كما في قوله سبحانه وتعالى.
(إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) (الشعراء:106)
(إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ) (الشعراء:124)
(إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ) (الشعراء:142)
(إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ) (الشعراء:161)
(إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ) (الشعراء:177)
(وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (العنكبوت:16)
وقبل أن ننتقل للنوع الآخر من التقوى ننظر لقوله تعالى.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (لأنفال:29)
اما المعنى الاخر للتقوى فهو العبادة وذلك المتعلق بعمل الجوارح في الالتزام بتنفيذ امر الله بالقيام بعمل الجوارح والأركان لتحقيق معنى الطاعة والتسليم والانقياد ، وهي التي أشار المولى عز وجل إليها في قوله " فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا واطيعوا وانفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" وسبحانه وتعالى يقول اتقوا الله ما استطعتم وما هنا اسم موصول بمعنى الذي أي الذي تستطيعون من الطاعة فأدوه وما قصرتم في أداءه فإن الله كتب على نفسه الرحمة وكتب عليكم التوبة والمغفرة والانابة وكتب على نفسه القبول ولذلك فقد أردف الله سبحانه أمره لعبادة بالتقوى حجم الاستطاعة بأوامر ثلاثة السمع بمعنى (الاصغاء) والطاعة بمعنى (الإذعان) والانفاق بمعنى (الأداء) وقد بين سبحانه وتعالى أن الانفاق هو أعلى مراتب الأداء لأنه يترتب عليه اتقاء شح النفس المؤدي للفلاح ، فالأصغاء والاذعان والأداء طريق الفلاح ومن عظيم كرم الله سبحانه وتعالى على من اتقاه من عباده حق تقاته بالإيمان الذي هو مرادف التوحيد أن أمرهم بالتوبة على ما قصروا في أداءه من تقوى العمل والأداء المقترن بالإصغاء والاذعان وفتح لهم باب الأمل على مصراعيه بأنه سيكفر عنهم سيئاتهم التي قصروا فيها عند الأداء وسيدخلهم بتقوى الاعتقاد وهو التوحيد جنات تجري من تحتها الأنهار ، على نحو قوله سبحانه وتعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ " التحريم 8
وكما أن الآيات في طلب تقوى الاعتقاد كثيرة فإن الله قد أمرنا بتقوى العمل في آيات كثيرة أيضا منها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)
(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام:153)
وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلي التقوى بنوعيها في سورة المائدة في قوله تعالى" واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به اذ قلتم سمعنا واطعنا واتقوا الله ان الله عليم بذات الصدور(7) يا ايها الذين امنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنان قوم على الا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى واتقوا الله ان الله خبير بما تعملون(8)" وسبحان الله والحمد لله الذي فتح بمفاتيح الغيوب اقفال القلوب فظهر ما كان عن العقل محجوب ، فسبحانه وتعالى قال في الآية 7 من سورة المائدة واتقوا الله ان الله عليم بذات الصدور وهي تقوى الاعتقاد والشاهد هنا بذات الصدور فهو عمل القلوب فيكون اعتقاد يطلع عليه رب العزة سبحانه وتعالى ، وفي الآية 8 قال واتقوا الله ان الله خبير بما تعملون وهي تقوى الأداء والشاهد بما تعملون ففي الأولى حق تقاته وفي الثانية ما استطعتم.