و الأخيرة

رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد ، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، واشهد أن محمداً رسول الله لا يدانيه في المنزلة أحد ، اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى اله وصحبه وكل من كان منهم أو معهم متحد أما بعد ،،،
يقول الله الحق سبحانه وتعالى (هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن ام الكتاب واخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم يقولون امنا به كل من عند ربنا وما يذكر الا اولوا الالباب) آل عمران7.
نحن هنا أمام نص قرآني يؤكد الله سبحانه وتعالى فيه أنه أنزل كتابه على نوعين من الآيات الأول منها هو المحكم والثاني هو المتشابه ، ولكن الله سبحانه وتعالى في موضع آخر من القرآن يؤكد على أن القرآن كله محكم ، وفي موضع ثالث يؤكد على أن القرآن كله متشابه ، فقد قال سبحانه وتعالى (الر كتاب احكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) هود 1 ، وهذا دليل على أحكام كل آيات الكتاب ، وقال سبحانه وتعالى (الله نزل احسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد) الزمر 23 ، دليل على تشابه كل آيات الكتاب لذلك وجب علينا أولاً تعريف المحكم والمتشابه وبيان الدلالة الكلية لكل كلمة ثم المعاني الجزئية ، حتى نصل لحل الإشكالية بإذن الله تعالى.

تعريف المحكم

المحكم جذر من الأصل (حَكَمَ) أي فصل وقضى والأصل فيه الإتقان ، لذك جعل الطعن على الأحكام المعيبة غير المتقنة ، ومن هنا تكون الدلالة الكلية لكلمة (حَكَمَ) ومشتقاتها هي القضاء مع الإتقان ، وأخذت منها الحكمة ، وهي جماع التراكم المعرفي لدي الحكيم من التحصيل العلمي أو من الخبرة المكتسبة ، والتي جعلته مؤهلاً للفصل في المسائل الحادثة ، والحكيم هو العاقل الذي يرجح الأمور ويستنبط الحلول بما أكتسبه من خبرات وعلى هذا تكون الدلالة الكلية للمحكم هو المتقن في ذاته ، وتتأرجح المعاني الجزئية للجذر (مُحكَمْ) بين المتقن في ذاته الممنوع على غيره الموزون به غيره ، أو من جماع ما تقدم فإذا كان متقناً في ذاته وجب كونه يدلّ على معناه بوضوح لا خفاء فيه، ولكونه ممنوعٌ على غيره وجب اعتباره لا يحتمل إلا وجها واحدا من التأويل، ولكونه موزونٌ به غيره وجب أن تكون دلالته واضحة راجحة وظاهر ة من النص ولنأتي بمثال لتقريب المعنى يقول الحق سبحانه وتعالى (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) البقرة 275 ، فهذا نص متقنٌ في ذاته معناه واضح البيع حلال والربا حرام ، لا يحتاج النص إلي قرينة خارجية لكي يفهم معناه ودلالته الكلية وما أنصرف إليه معناه الجزئي ، فلما تقول المشركين بما أخبر به رب العزة سبحانه وتعالى (ِانَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) في نفس الآية فنقوم بميزان قولهم على ما ذكره رب العزة سبحانه أنه أحل البيع وحرم الربا ، فيكون حكم الآية المحكمة على كلام المشركين أنه كلام أعور لا يستقيم أن نساوي بين الحلال والحرام
لذلك شرح الأصوليون معنى محكم على معاني أولها: ما عرف مراده ظهوراً أو تأويلاً ، وثانيها: فإن كان تأويلاً فليس له إلا وجهاً واحداً ، وثالثها: واضح الدلالة لا حذف فيه أو إلغاء ، ورابعها: استقل لنفسه بنفسه لا يحتاج بياناً خارجياً وخامسها: متقنٌ لا إشكال فيه ، ونضيف عليهم فيما قالوه أنه: يحكم به على غيره من المتشابه.
فيكون قوله سبحانه وتعالى (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) هود 1 ، محمول على دلالة الإحكام الكلية أي أنه منظم رصين متقن متين لا يتطرق إليه خلل لفظي ولا معنوي كأنه بناء مشيد محكم يتحدى الزمن ولا ينتابه تصدع ولا وهن ، وهو ما ينصرف على هذا المعنى من الإحكام على كل آيات القرآن.

تعريف المتشابه

أما المتشابه فقد أخذت دلالته الكلية من الشبه والتماثل وقد يحمل على الظاهر المادي على نحو قوله سبحانه وتعالى (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ان البقر تشابه علينا وانا ان شاء الله لمهتدون) البقرة 70 ، وهنا بمعنى التماثل بين البقر حتى عجزنا أن نستخرج منه تلك التي أراد الله سبحانه وتعالى لنا أن نذبحها ، وهو تماثل مادي أدى لحالة من البلبلة الظاهرة وسوء الفهم وعدم تقدير المراد على حقيقته ، كما يحمل التشابه على المعنوي غير الظاهر أو الملموس المادي على نحو قوله سبحانه وتعالى (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله او تأتينا اية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون) البقرة 118 ، وهنا تشابه معنوي مجاله التقدير العقلي لا اللمس الحسي أو المشاهدة الحقيقية ، تشابهً تقديري حمل على ما جبلت عليه قلوب المكذبين لكل رسولٍ نبي ، يطلبون الآيات ولو جاءتهم الآيات ما آمنوا ، ولما كان المتشابه لغة هو المتماثل على الظاهر المادي الملموس والباطن المعنوي المحسوس ، فإن المتشابه شرعاً هو ما كانت دلالته غير واضحة فهو ما لا يستقل بنفسه لنفسه ، بل يحتاج إلى بيان لحصول الاختلاف في تأويله ، فيكون المتشابه هو المتماثل في ذاته مع غيره ، المبهم بذاته المحتاج لغيره ، الذي لا يوزن به ويحتاج ما به يوزن
وقد قسم علماء الأصول المتشابه إلي أنواع ثلاثة أولها: ما لا سبيل للوقوف عليه مثل الساعة ومرساها ونحو ذلك ، وثانيها: ما يكون لنا سبيل إلي معرفته كالأحكام الغُلقى والألفاظ الغريبة الصعبة ، وثالثها: متأرجح بين هذا وذاك وهو المحتاج استنباطه من النصوص القرآنية ، وهو ما أختص الله به الراسخون في العلم المتمكنون من استنباطه
ومن خلال الدلالة الكلية لمعنى كلمة (متشابه) وهي متماثل ، نفهم قوله سبحانه وتعالى (الله نزل احسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد) الزمر 23 ، على الدلالة الكلية أي  أن آياته متشابهة في الحق والصدق، والإعجاز، والهداية إلى الخير ، كما أنها متشابهةً في النظم واللسان والرسم والخط ، فكل من يقرأها يخشع لها ويفهمها على أنها متشابهة في العظمة والصدق من عند رب العالمين.

المحكم والمتشابه من الآيات:

ونأتي لشرح قوله تعالى (هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن ام الكتاب واخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم يقولون امنا به كل من عند ربنا وما يذكر الا اولوا الالباب) آل عمران7
عرفنا أن القرآن به آيات محكمات وهذه الآيات هي المتقنة في ذاتها الممنوعة على غيرها الموزون بها غيرها والتي تحمل دلالة واحدة فقط ، لذلك قال الحق سبحانه وتعالى (هن أم الكتاب) أي أصله وجماع صفاته وأحكامه ، وعندما نقرأ كلمة (أم) والأم تعني الحاضنة من الحضانة والضم ، فإنه على هذا المعنى تكون الآيات المحكمات للآيات المتشابهات بمثابة الأم الحاضنة والتي لا يمكن أن يعرف معناها إلا بالرجوع لأمها ، فتكون الآيات المحكمة هي الميزان الذي يوزن به الآيات المتشابهة ، فلا يمكن لنا قراءة الآيات المتشابهة التي تحتمل أكثر من تأويل ومعنى بمعزل عن الآيات المحكمة ، وإلا أدى بنا هذا إلي الضلال والغي ، لذلك قال الحق سبحانه وتعالى (فأما الذين في قلوبهم زيغ) والزيغ هو التشتت دون التركيز ، والضلال والبعد عن الحق ، يقول الله سبحانه وتعالى (واذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون اني رسول الله اليكم فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين) الصف 5 ، وهنا عندما زاغوا عن موسى عليه السلام أي تشتتوا عنه وانصرفوا من عنده ، أزاغ الله قلوبهم عن الهداية لله فأصبحوا في الضلالة ، ولذلك أكد الله معنى وقوعهم في الضلالة بقوله (والله لا يهدي القوم الفاسقين) والفسوق هو العصيان والخروج من الصف والتدبير فتكون معاني (زاغ) أي ضل وتشتت وخرج عن الصف والصواب ، فالذي في قلبه زيغ أي تمرد وضلال وعميان عن الحق ، والزيغ للقلوب على نحو قوله تعالى (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب) آل عمران 8 ، أي لا تضل قلوبنا عن الحق ، وقد يكون للأبصار على نحو قوله تعالى (اذ جاؤوكم من فوقكم ومن اسفل منكم واذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا) الأحزاب 10 وهي تعني العجز المؤدي للتشتت ، نقول الذي في قلبه ضلال ، يتبع ما تشابه منه ، و(ما) هنا اسم موصول بمعنى الذي ، وفيه دليل على أن صاحب الزيغ في القلب كلما دخل على القرآن أتبع المتشابه فقط دون رده إلي المحكم يحاول فهمه بمعزل عن المحكم ، وذلك (ابتغاء الفتنة) ، والفتنة هنا تعني الابتلاء أي أنه يريد أن يبتلي المسلمين بمعاني ما أنزل الله بها من سلطان تختلف عن مراد رب العالمين فيتبعه بعضهم ، فتحدث الفتنة أي الابتلاء الذي يؤدي إلي الاثم والكفر والحرب والقتال والازالة والتي تؤدي في النهاية إلي الانصراف عن القرآن ذاته ، (وابتغاء تأويله) أي محاولة فهمه بطرقة غير صحيحة لاستخراج أحكام لم يحتملها نص المتشابه برده للمحكم ، أي تأويله بمعنى يصرفه عن صحيح التأويل الذي هو مقصود رب العالمين ، لذلك قال سبحانه (وما يعلم تأويله إلا الله) أي ما يعلم تأويله تأويلاً صحيحاً إلا الله سبحانه وقد ضمنه في الآيات المحكمات المعتبرات عند محاولة فهم أي آيات متشابهات ، فيكون فيها حكماً برد المتشابه من الآيات إلي المحكم ، ولنقدم مثال تقريبي يشرح كيف نرد المتشابه للمحكم ، يقول الحق سبحانه وتعالى (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ، ان الله يغفر الذنوب جميعا ، أنه هو الغفور الرحيم) الزمر 53 ، وهنا يحمل نص الآية على أن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يحتاج للتوبة من عباده ، أي أنه يغفر لمن لم يتب ، وكذلك يفهم على أن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب عنها ، فأي المعنيين حق ، نرجع للآية المحكمة في موضوع غفران الذنوب وهي قوله سبحانه وتعالى (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم أهتدى) طه 82 ، فيكون الغفران لمن تاب وهو مؤمن واتبع طريق الهدى وربط التوبة بالعمل ، فيكون فهماً واحداً لآية الزمر 53 هو الصحيح وهو الموزون بآية طه 82 والتي هي الآية المحكمة ، التي يوزن عليها الآيات المتشابهة في نفس الموضوع
يقول تعالى (والراسخون في العلم يقولون امنا به كل من عند ربنا وما يذكر الا اولوا الالباب) قال البعض أن ال(و) التي سبقت الراسخون في العلم هي فاصلة أي أن الله وحده هو الذي يعلم تأويله أم الراسخون في العلم يقبلونه كله على ما فيه من تشابه وما يحمله من معاني لا يعرف صحيحها من سقيمها ، ويحمدون الله عليه هو كما هو ، كما يقول البعض أن الواو عاطفة ، أي أن الراسخون في العلم أيضاً يعلمون تأويله كما يعلم تأويله الله سبحانه وتعالى ، ولكن الفرق أن الله سبحانه يعلم تأويله إبتداءا ويعلم مقصوده من النص المحكم ومن النص المتشابه أيضاً ، أما الراسخون في العلم فيعلمون تأويله برد متشابهه إلي محكمه والشاهد قولهم (كل من عند ربنا) أي أن محكمه ومتشابهه من عند ربنا فلا يجوز لنا فهمه كجزر منعزلة ، ونأخذه ونرصه رصاً كآيات وكل منا يفسرها بمزاجه وعلى هواه ، ولكن القرآن وحدة واحدة ، وكل يرد متشابهه إلي محكمة فيمكننا فهمه على مقصود رب العزة سبحانه وتعالى ، لذلك ذكر الله في آخر الآية أداة الحصر ب(ما ...و ... إلا) بقوله (وما يذكر إلا أولي الإلباب) ف (ما) النافية لجنس التذكر وهو الهداية للمعنى الصحيح الذي يؤدي للذكر الصحيح بعيداً عن الفتنة وبعيداً عن تأويله ، ثم الحصر والاستثناء (إلا) أولو الألباب وهي العقول الذاكرة الخاشعة والقلوب الواعية العاقلة ، والتي تمكن صاحبها من رد المتشابه على المحكم رداً يكون مجلياً لأي غمة ، منهياً لأي زيغ ، ويمكننا من استخراج معنى متشابهه برده إلي محكمه والله تعالى أعلم
وهو سبحانه من وراء القصد وهو يهدي السبيل ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تم نسخ الرابط