و الأخيرة

رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

هل أصبح التاريخ لعبة المتفرغين البعيدين عن الجادة ؟ لقد تجرأ عليه الكثيرون سواء من كتاب الأدب أو الصحافة ، ولا أتصور أن التاريخ فن لقيط إلى هذه الدرجة ، يزعمه كل بعيد عنه ، إن أدوات المؤرخ تختلف تماماً عن عدة الأديب أو غيره ممن طمع أن يلج صفحات التاريخ ، لذا فإن أديبا مثل جورجي زيدان أو طه حسين أو حتى العقاد حين كتبوا أدبا وضمنوه رؤيتهم التاريخية جاء مشوهاً تذروه رياح النقد بأبسط العبارات .

وخطورة كتابة التاريخ من غير المتخصصين فادحة ، فكثير من مرويات التاريخ مكذوبة لا أصل لها ، أو بلغت درجة من الضعف والوهن بالرغم من ذيوعها وانتشارها مثل ما ورد فى السيرة عن مبيت على بن أبى طالب مكان النبى (ص) يوم الهجرة ،ومثل رواية نسج العكنبوت ، ووجود الحمام على باب الغار، وغير ذلك من مرويات التاريخ المزور فى حق بنى أمية .
إننا نلحظ أن أبا طالب عم النبى كان حاميا له بدافع العصبية القبلية والنسب الهاشمى ، ووقف يحميه حتى مات على الكفر مصمماً عليه . فى الوقت ذاته نرى أبا سفيان الذى ناصب النبى (ص) العداء الألد ، ثم دخل الإسلام بعد فتح مكة وحُسن إسلامه،وقد استخدمه النبى فى إدارة بعض الأمور المادية للدولة الإسلامية، فضلا عن إصابته الأولى فى عينه يوم الطائف، وهو يجاهد فى صفوف المسلمين ، ثم يفقد عينه الأخرى فى معركة اليرموك ، ومع هذا نجد الكتابات التاريخية تمدح أبا طالب ، وتخفى تاريخ أبى سفيان ، بمعنى أخر الذين يقرأون التاريخ من أقلام الأدباء وغيرهم يجدون تمجيد أبى طالب ، وذم أبى سفيان ! ، بالرغم من أننا نجد أن حياته بعد الإسلام قد شرفته..،  فبأى ميزان يزنون هذه المرويات ؟ ! .

أين العقل الذى يعى ما يقرأ ؟ ولماذا خلدت هذه الآراء واشتهرت ، وتم دس أخرى مع سبق الإخفاء والترصد المتعمد ؟ ! . 
لا شك أن العاطفة المغنطيسية قد عبثت بالهوى فقبلنا مرويات واهية ، وتوارثناها بل ودافعنا عنها،  وبلغت هذه الخطيئة أنها كونت وجدان البعض لدرجة أنها أصبحت عقيدة لدى إحدى الطوائف . إنه منطق غريب ! إن الحسن رضى الله عنه قد ورث أباه (على بن أبى طالب) فى تنصيبه خليفة على المسلمين ، وقد تم تعينه من قبل أشياع على بن أبى طالب وأعوانهم ، ومع ذلك تجد أن كتاب التاريخ يتهمون معاوية بأنه أول من ورث ابنه الحكم، وينسجون حول مسألة التوريث مرويات مكذوبة ، وسواء كان الرأى مع القبول أو الرفض لعموم التوريث ، فإن العاطفة الصناعية المحاكة قد شكلت وجداننا دون أن نحكم عقولنا ، ونحقق المرويات بدقة .

إن التاريخ لا يترتب عليه حكم فقهى ، لكن بمقدرة كاتبه أن يتلاعب بالنصوص ويلويها حيث شاء غير مكترث بجريمة التلفيق إذ أنه لا يشعر بجرم مخالفة الحقيقة التاريخية ، إنه فى هذه الحال كمن يخطىء فى تحديد الألوان . بيد أن ما نبنى عليه المعلومة التاريخية خاضع للأهواء والأمزجة .

لكن ما الذى جعل تاريخنا مشوبا بعدد من الأكاذيب ؟ 

أولاً : لا نغفل شخصية المؤلف وميوله وأهواءه ، ومدى سيطرة هذه الميول على أحكامه .
ثانياً : تقرب أصحاب هذه الكتب إلى ذوى الجاه والمناصب بالمدح والثناء ، وقد ينسجون إليهم أعمالا مزورة لم تحدث من الأصل .
ثالثاُ : الجهل المركب بقوانين الاجتماع الإنسانى وإلى أى مدى تبدو ثقافة المجتمع ووجهته .
رابعاً : عدم مرعاة البيئة الزمنية ، ومسألة تغير الأوقات وتطور الأمصار والأشخاص .
ونأسف حين نقول أن العرب لم يحسنوا كتابة تاريخهم ، لقد كتبوا تاريخ العرب قبل الإسلام فى العصر الأموى ، وكتبوا تاريخ الأمويين فى عهد سلاطين بنى العباس ، وكلما فنيت أمة جاءت من بعدها لتلعن سيرتها ، وتدون من تاريخها ما يسوء إليها . إننا فى حاجة إلى إعادة كتابة تاريخنا وفق منهج علمى لتحقيق كل نص وارد ..، وليس ذلك بالهين . 

تم نسخ الرابط