خطوة الاستقلال الأولي
ثورة 1919 .. بداية تحرير مصر من الاستعمار البريطاني
إندلعت شرارة ثورة 1919 في مصر عقب نفي زعيم الحركة الوطنية سعد زغلول ورفاقه إلى مالطة، لكنه لم يكن السبب الوحيد الذى دفع المصريين للخروج في مظاهرات حاشدة، فقد خرج المصريون للمطالبة باستقلال مصر وإلغاء الحماية البريطانية.
عانت مصر منذ بداية خضوعها للاحتلال البريطاني في سبتمبر 1882، لكن المعاناة الاكبر كانت مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 حيث دخلت تركيا الحرب بجانب ألمانيا والنمسا ضد إنجلترا وفرنسا، وتورطت مصر بشكل كبير في الحرب، وفُرض عليها عدم التعامل مع ألمانيا ورعاياها، بينما منحت إنجلترا لنفسها الحق في توظيف الموارد والأراضي والمياه المصرية لصالحها أثناء الحرب.
وفي 18 ديسمبر 1914 أعلنت إنجلترا فرض الحماية على مصر، وأعلن الاحتلال البريطاني الأحكام العرفية، وفرض الرقابة على الصحف، وعطّل الجمعية التشريعية، وأصدر قوانين تجرم الإضرابات والمظاهرات، وفرض نظام "السلطنة" بعد عزل الخديوي عباس حلمي الثاني وتعيين السلطان حسين كامل لحكم مصر تحت سيطرة الاحتلال.
ووصل التعسف البريطاني إلي تحميل المصريين فاتورة، بمصادرة المحاصيل الزراعية والمواشي، وإجبارهم على زراعة المحاصيل التي تخدم احتياجات الحرب، وتجنيد مئات الآلاف من الفلاحين المصريين قسريا، للمشاركة في الأعمال المساندة خلف صفوف القتال الأمامية تحت مسمى "فرق العمل المصرية".
مقدمات ثورة 1919
ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، تفاقمت الأوضاع وبلغت حالة الاحتقان ذروتها بين الشعب المصري، واقتنع كثيرون أن نهاية الاحتلال البريطاني قد أوشكت بعد انتصار حلفائه خلال الحرب، وأن الوقت قد حان لنيل المصريين حريتهم بعد أن كبدتهم الحرب خسائر بشرية ومادية باهظة.
وفي 13 نوفمبر1918 ذهب سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي إلى دار الحماية للقاء المندوب السامي البريطاني ريجنالد وينجيت، وقدموا إليه مطالب الأمة، وهي: إلغاء الأحكام العرفية، وإنهاء الرقابة على المطبوعات، واستقلال مصر عن الاحتلال البريطاني.
واتفق زعماء الحركة الوطنية على تأسيس هيئة الوفد المصري لجمع توكيلات من الشعب، تمنحهم الشرعية والصلاحية الكاملة في تمثيل المصريين.
وصلت التوكيلات التي تم جمعها من عموم الشعب إلى مليوني توكيل من أصل 14 مليون مواطن، ومع اتساع رقعة جمع التوكيلات أمرت سلطات الاحتلال الحكومة المصرية بمنع جمع التوقيعات ومصادرة ما تم جمعه.
تقدم الزعماء بطلب للجيش البريطاني للسماح لهم بالسفر إلى لندن لعرض قضية مصر والإعلان عن مطالبهم، إلا أن سلطات الاحتلال رفضت ذلك، وبأن يرسلوا طلباتهم مكتوبة، وأثار هذا الرد غضب سعد زغلول ورفاقه، مما دفعهم إلى شن حملة مضادة لسلطات الحماية، وإرسال برقيات لرئيس الوزراء البريطاني لويد جورج لعرض قضية مصر والمطالبة باستقلالها.
فيما قدم حسين رشدي استقالته من منصبه احتجاجا على منع الوفد من السفر لمؤتمر باريس، وعدم السماح له ولوزير المعارف عدلي يكن بالسفر إلى لندن لمناقشة الأوضاع مع السلطات البريطانية، وقبل السلطان فؤاد الاستقالة.
بداية ثورة 1919
وفي 8 مارس عام 1919 أتم إلقاء القبض على سعد زغلول ومحمد محمود وحمد الباسل وإسماعيل صدقي وتم نفيهم إلى جزيرة مالطة، وهو ما أشعل فتيل الثورة بين المصريين.
فور انتشار خبر نفي سعد زغلول ورفاقه، اشتعل غضب المصريين في القاهرة والمحافظات ، وامتنع الطلاب عن تلقي دروسهم، وخرجوا بمظاهرات سلمية في الشوارع مطالبين بسقوط الحماية، مرددين هتافات مطالبة بعودة سعد زغلول ورفاقه من المنفى.
وفي اليوم التالي امتدت المظاهرات لتشمل الأزهر وباقي طلاب المدارس العليا والثانوية، واتسعت المظاهرات وضمّت عمال السكك الحديدية، الذين أعلنوا إضرابهم وقطعوا خطوط المواصلات، وانضم لهم سائقو الترام وسيارات الأجرة وعمال البريد والكهرباء والجمارك والورش الحكومية والمطابع والقضاة والمحامون، وأُغلقت البنوك.
وتوحّد المصريون مسلمين ومسيحيين، وانضم لهم الفلاحون في القرى ، وشهدت القاهرة مظاهرة حاشدة تضم مئات الآلاف من المصريين متجهين إلى قصر عابدين لدعم الثورة ومطالبها.
لأول مرة في التاريخ
وشهدت ثورة 1919 أحداثا تاريخية، عندما خرجت النساء للاحتجاج وقدن مظاهرات، شاركت فيها نحو 300 امرأة، على رأسهن صفية زغلول زوجة سعد زغلول، واعتلى القساوسة منابر المساجد وجامع الأزهر الشريف وخطب الأئمة في الكنائس، مما بث الخوف في نفوس الاحتلال من تحول الأزهر إلى معقل للثورة والثوار، ودفع دار الحماية إلى استدعاء شيخ الأزهر محمد أبو الفضل الجيزاوي كي يغلق الأزهر لكنه رفض.
فأغلقت السلطات البريطانية ساحة الأزهر الشريف والطرق المؤدية له ووضعت العراقيل، فحوّل الثوار الوجهة إلى جامع ابن طولون لموقعه المتميز على ربوة عالية وصعوبة الوصول إليه، وحفروا الخنادق ووضعوا المتاريس في الطرق المؤدية للجامع، وبالفعل وجدت سلطات الحماية صعوبة شديدة في الوصول إليه.
شعر الاحتلال البريطاني بفقدان السيطرة على مصر، ما دفع الجنرال بولفين إلى استخدام الطيران ضد الثوار في الريف، واستعاد بعض المدن مرة أخرى للسيطرة البريطانية، بعد سقوط عشرات الشهداء من المصريين.
تولى الجنرال إدموند ألنبي منصب المفوض السامي البريطاني بدلا من وينجيت، وتبنى الدبلوماسية في التعامل مع الثوار، وسعى لإجراء المفاوضات لإيجاد حل بدلا من الوسائل العسكرية المتبعة.
الرضوخ لمطالب الثوار
بعد نحو شهر من اندلاع ثورة 1919 ، رضخت السلطات البريطانية لبعض مطالب الثورة، وفي 7 أبريل 1919 أُفرج عن سعد زغلول ورفاقه وأُعيدوا من المنفى، وأُلغيت قيود السفر للمصريين، وتم السماح لهم بالسفر إلى مؤتمر باريس لتمثيل الشعب المصري.
خرجت المظاهرات في جميع المحافظات احتفالا بخروج زعماء الحركة الوطنية، مع التأكيد على الاستمرار حتى يتحقق المطلب الأساسي بنيل الاستقلال التام.
لكن مؤتمر الصلح لم يسفر عن أي خطوات إيجابية تجاه قضية مصر، ورفض الاستجابة لمطالب المصريين التي قدمها الزعماء أثناء المؤتمر.
غضب المصريون من عدم تحقيق مطالبهم خلال المؤتمر، وعادوا للتظاهر مرة أخرى، مما أسفر عن نفي سعد زغلول مرة أخرى ولكن إلى جزيرة سيشل، واستمر الثوار في التظاهر.
عاد سعد زغلول من المنفى عام 1921، وأصدرت بريطانيا تصريحا في 28 فبراير 1922 بأن مصر دولة مستقلة، وأنهت الحماية البريطانية مع تمسك سلطات الحماية بـ4 تحفظات هي: تأمين مواصلاتها في مصر، وحقها في الدفاع عن مصر ضد أي اعتداء، وحماية المصالح الأجنبية، وحماية الأقليات.
وصدر أول دستور مصري عام 1923، وأُجريت الانتخابات وفاز بها حزب الوفد برئاسة سعد زغلول، وتم تشكيل أول وزارة برلمانية عام 1924، وكان سعد زغلول رئيسا لها.