كان الازهر ولا زال حارسا علي الثقافة العربية وحصنا منيعا لوسطية الدين الحنيف منذ مئات السنين.
وانطلاقا من هذا الدور وتلك المكانة، كانت مبادرته الرائدة "الرواق الازهري"، كواحدة من أعظم المبادرات، وأهم المشروعات التي قدمها الأزهر الشريف للمجتمع المصري، خلال السنوات الماضية، لاسيما مشروع رواق تحفيظ القرآن الكريم وتعريف النشء بالمفاهيم الصحيحة للدين، كمساهمة جليلة منه في بناء الشخصية المصرية، وتشكيل وعي الأجيال الجديدة..
الاهتمام بالنشء والشباب باعتبارهم الطاقة الفاعلة لبناء الوطن، والعمل على رفع قدراتهم العلمية والثقافية، هو مشروع وطني بامتياز خصوصا في ظل انهيار وتردي مستوي اللغة العربية لدي الجيل الجديد، وانحدار الثقافة الدينية بفعل عوامل كثيرة..
ولعل أهم العوامل التي أثرت في ثقافة هذا الجيل، كان الركون إلي مواقع التواصل وانفاق الوقت علي متابعة الفضاء الإلكتروني عبر شبكة الإنترنت بلا هدف.
جاء الرواق الأزهري لتحفيظ القرآن الكريم، الذي يضم اليوم مئات الالاف من الأطفال والشباب بالمدن والقري في مختلف محافظات مصر، لمواجهة هذه الأمراض الثقافية، الناشئة عن عملية "التغريب" المستمرة التي تقودها منظومة المدارس الدولية في المجتمع وتكرس لها وسائل الإعلام الغائبة عن عملية التثقيف الحقيقية، الغافلة عن أهمية اللغة العربية وفنونها.
اهتمام كثير من الأسر المصرية بالتعليم الحديث للأبناء، جاء علي حساب الثقافة واللغة العربية، حتي أصبح الخطأ في نطق مصطلح باللغة إنجليزية "عار"، بينما الجهل باللغة العربية وقواعد الإملاء والنحو والصرف، وحتى القواعد الأساسية للشريعة الإسلامية والثقافة الدينية أمر عادي، ولا يشغل بال ولي الأمر الذي يحرص علي تعليم اولاده لغات اجنبية، وإن كنا لا نغفل أهميتها.
كثير من البرامج التليفزيونية وشريط الأخبار وإعلانات الشوارع ومنافذ بيع تذاكر المترو، ولوحات التعليمات والإرشادات وحتي المخاطبات الرسمية بالمصالح الحكومية، ويافطات المحامين والأطباء والمحلات التجارية، تخاصم في معظمها أبسط قواعد النحو، وتتحدي بصورة سافرة علم الإملاء وأصول رسم الحروف العربية.
بات عاديا أن تري كلمة "جنيه" على شبابيك التذاكر في محطات مترو الأنفاق، ولوحات تحديد تعريفة الركوب بمواقف سيارات الأجرة وأسعار المنتجات والسلع مكتوبة بـ "التاء المربوطة"؛ ولم يعد صُناع اللوحات الإعلانية البراقة الذين ينفقون عليها آلاف الجنيهات لجذب انتباه المارة بالشوارع والميادين مهتمون بهمزات القطع والوصل ولا حتى بأصول اللغة البسيطة.
لم يعد هناك آلية واحدة لمكافحة هذا التلوث اللغوي وإجبار المسئولين في المصالح والهيئات الحكومية وغيرها من المؤسسات التجارية على مراجعة وتدقيق المكاتبات واللافتات.
نعم.. من أمن العقوبة أساء الأدب، فليس هناك رقيب أو جهة يمكن أن تحاسب هؤلاء على تدمير اللغة العربية وقصف قواعدها يوميا بأسلحة الازدراء واللامبالاة، في وقت لم تعد المشكلة في وجود هذه الأخطاء الفجة وانتشارها في كل مكان من حولنا، وإنما أصبحت المشكلة الأكبر في استمرار عرضها ومشاهدتها كل يوم، والإلحاح بها أمام أعين الأطفال من تلاميذ المدارس، فاللغة ليست درسا تعليميا وحصة داخل فصول الدراسة وحسب، وإنما يتعلم الأطفال أيضا اللغة ويكتسبون قدرا كبيرا من قدراتهم ومهاراتهم اللغوية من البيئة المحيطة بهم.
المجتمع الذي يشهد كل هذه الفوضي والازدراء للغة العربية، يمارس في المقابل سلوكا غريبا بانتقاد كل من يخطيء في نطق اللغة الإنجليزية، وصار الخطأ في حق لغتنا أمرا عاديا، بينما الخطأ في نطق الإنجليزية عار يوصف صاحبه بـ " البيئة".
حالة "تغريب" مستمرة منذ سنوات في المجتمع المصري أفرزت أجيال مشوهة ثقافيا ولغويا، فجاءت مبادرة الرواق الازهري تحت رعاية "سيدنا" الإمام أحمد الطيب شيخ الازهر الشريف للتصدي لهذا العبث، وإن كنا نحتاج إلي عشرات المبادرات الثقافية في هذا الاتجاه لتعزيز ثقافتنا ولغتنا والحفاظ علي تراثنا من الاندثار.