
ربما لم تبق وسيلة إعلام واحدة فى العالم ، لم تنشر أو تذع النصوص والمشاهد الكاملة لجلسة تأديب وتعنيف الرئيس الاوكرانى المسكين "فلوديمير زيلينسكى" على يد الرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" ونائبه المتنمر "جى. دى . فانس"، جرت وقائع العشر دقائق الصاخبة فوق بضعة أمتار ومقاعد داخل المكتب البيضاوى ، لكن زلازلها راحت تهز الدنيا كلها وأوروبا بالذات ، وتنسف كل مراسم وقواعد الدبلوماسية المتحضرة ، وبدت البلطجة مدبرة من لحظة وصول "زيلينسكى" ، فقد تظاهر "ترامب" بامتداح أناقة "زيلينسكى" وقميصه الزيتى على الباب ، ثم فوجئ المسكين بصحفى حاضر ينتقد زيه غير الرسمى الذى لا يليق ، ثم افتتح نائب الرئيس "فانس" جلسة التأنيب ، وحاول "زيلينسكى" الدفاع عن نفسه دون جدوى ، فقد اتهم بعدم تقديم ما يكفى من أمارات الامتنان للسيد "ترامب" ،
الذى كشف للرئيس الأوكرانى عدم حيازته لأية أوراق لعب أو تفاوض ، وأنه يقف ـ أى "ترامب" ـ فى صف واحد مع العالم ، ويريد إنهاء حرب أوكرانيا ، وأن "زيلينسكى" يخاطر بإشعال حرب عالمية ثالثة ، وحين قال "زيلينسكى" هل يمكننى الرد ؟ ، قاطعه "ترامب" لا.لا. لقد قلت الكثير" ، و"بلدك فى مأزق خطير" ، و"أنت لا تنتصر" ، و"لديك فرصة للخروج من هذا الوضع بسلام بفضلنا" ، ووصل "ترامب" إلى الذروة بقوله المهدد للرئيس الأوكرانى "هل تريدنى أن أكون صارما ، يمكننى أن أكون أكثر صرامة من أى شخص قابلته فى حياتك ، سأكون صارما للغاية " ، وتطور التلاسن من قبل ومن بعد ، حتى كان قرار "ترامب" بطرد "زيلينسكى" ، وتقديم الطعام الذى كان معدا للضيف إلى موظفى البيت الأبيض ، بعدها ، حاول "زيلينسكى" حفظ ما تبقى من ماء وجهه بحوار مع شبكة "فوكس نيوز" الأمريكية ، حاول فيه التأكيد أنه لم يخطئ فى حق "ترامب" ، وكرر الشكر للإدارة والشعب الأمريكى على دعم أوكرانيا فى حرب الثلاث سنوات إلى الآن ، ثم عبر المحيط الأطلنطى إلى العاصمة البريطانية "لندن" ، ولقى هناك حفاوة واحتضانا بريطانيا وأوروبيا ، ووعودا سخية من القادة الأوروبيين بتقديم دعم إضافى قيمته عشرين مليار يورو أسلحة ، وبعد صراخ التحدى الهيستيرى الأوكرانى المدعوم أوروبيا ، عاد "زيلينسكى" بعد يوم وساعات من امتداح شجاعته ، وأعلن ندمه وأسفه على ماجرى فى البيت الأبيض ، وقال أنه مستعد للتوقيع فورا على "صفقة المعادن الكبرى" التى طلبها "ترامب" ، وعلى أية صيغة وصورة يريدها ، وأنه مستعد للعمل من أجل السلام تحت "القيادة القوية" للرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" .
بدا الأمر كله كما لو كان قصة صغيرة متكررة بطول وعرض التاريخ البشرى ، فمن لا يعتمد على نفسه يلقى هوانا ، حتى ولو كان بعيدا عن الكاميرات ، وإن كان حظ "زيلينسكى" أتعس مع حضور الكاميرات ، فقد تصور "زيلينسكى" أنه بطل خارق للعادة ، ولعبت الميديا الغربية دورا هائلا فى تلميع واصطناع صورته ، وفى أمريكا ذاتها ، كان يذهب ليلقى استقبال الأبطال الفاتحين فى الكونجرس ووسائل الإعلام ، وفى الجلسات المسترخية أمام المدفأة مع الرئيس السابق العجوز "جو بايدن" ، ثم جاءه الذى تعود على السخرية من "بايدن" ، واتهامه بالغباء لتقديمه 350 مليار دولار دعما للرئيس الأوكرانى فى حرب خاسرة ، ومن دون أن يتلقى فى المقابل غير الخسران و"سواد الوش" ، وتوريط واشنطن فى هزيمة فادحة أمام روسيا ، وقد اعتبر "ترامب" أن "زيلينسكى" من أتباع "بايدن" ، وأراد مع نائبه "فانس" التنكيل بسلفه "بايدن" فى شخص "زيلينسكى" ، قال "فانس" مباشرة للرئيس الأوكرانى "قمت بالترويج للمعارضة (جماعة بايدن) فى بنسلفانيا فى أكتوبر الماضى . ألا يمكنك أن تقدم بضع كلمات تقدير للولايات المتحدة . وللرئيس ترامب الذى يحاول إنقاذ بلدك " ، ثم دخل "ترامب" مباشرة فى الموضوع ، وقال للرئيس الأوكرانى "أنت محاصر هناك . الناس يموتون . أنت تفتقر إلى عدد كاف من الجنود . هذا فى الواقع سيكون أمرا جيدا . ثم تقول لا أريد وقف إطلاق النار . أريد المضى قدما . انظر . إذا كان بإمكاننا تحقيق وقف إطلاق النار الآن . سأنصحك بقبوله . حتى يتوقف الرصاص عن الطيران . ويتوقف رجالك عن الموت" ، وحين عقب "زيلينسكى" دعنى استشر شعبنا عن رأيهم فى وقف إطلاق النار" ، عاد "ترامب" فصدمه "هذا لا يعنينى" ؟ وأضاف "لقد تجاهلوا بايدن . ولم يظهروا له أى احترام ومع ذلك فهم (الروس) يحترموننى. بوتين تحمل الكثير خلال فترة عملنا معا . واجه مطاردة ساحرات ملفقة تضمنته . وتردد روسيا . روسيا . روسيا هل سمعت عن ذلك ؟ كان ذلك جزءا من مخطط خادع يتعلق بهانتر بايدن وجو بايدن . هيلارى كلينتون . آدم شيف المخادع . كانت خطة ديمقراطية. كان عليه أن يتحمل ذلك وقد تحمله . لم ننته إلى الحرب (....) واجه بوتين اتهامات تعلق بأمور مختلفة . كل ما يمكننى قوله هو . ربما انتهك بوتين اتفاقات مع أوباما وبوش . وربما فعل الشئ نفسه مع بايدن . ربما فعل . ربما لم يفعل . لست متأكدا مما حدث . ومع ذلك لم ينتهك اتفاقات فى وجودى . إنه مهتم بعقد صفقة ( . . .) ومع ذلك أنت لم تظهر أى تقدير على الإطلاق ، وهذا حقا غير لطيف ( . . .) حسنا . اعتقد أننا رأينا ما يكفى الآن . يمكننى أن أقول . هذا سيكون بثا تليفزيونيا رائعا .. لنر ما يمكننا فعله حيال ذلك . دعونا ننهى ونغادر" ، هكذا أنهى "ترامب" وصلة غرامه وإعجابه بالرئيس الروسى "بوتين" مشفوعة بتعنيف الرئيس الأوكرانى ، ثم كان الطرد بلا مصافحة وداع ، وفى حين بدا لساعات عابرة بعدها ، أن أوروبا على استعداد لاحتضان "زيلينسكى" ، وتعويضه عن فراق أمريكا ، فإن أمواج التحدى تكسرت بسرعة ، وراح "ترامب" يهوى بالمطارق فوق رأس أوكرانيا وأوروبا معها ، وصدر عن وزير دفاعه قرار بوقف الهجمات السيبرانية الأمريكية على روسيا ، ثم أتبعه "ترامب" بقرار وقف المساعدات العسكرية الأمريكية إلى أوكرانيا ، وبدت موسكو متحمسة لهذه القرارات ، وطامحة إلى مزيد منها ، بينما ابتلع "زيلينسكى" اعتراضاته ، وعرض التوقيع الفورى على اتفاقية استنزاف المعادن الأوكرانية النادرة على النحو الذى يريده "ترامب" ، وقيمتها فى أدنى تقدير 500 مليار دولار ، توضع كلها فى صندوق لصالح الخزانة الأمريكية ، وكتعويض مباشر عن 350 مليار دولار منحتها واشنطن إلى "كييف" ، كان "زيلينسكى" يجادل بأنها لا تزيد على 120 مليار دولار (!) ، بينما لم تعد أوروبا تحتج على فظاظة "ترامب" ، وتريد فقط أخذ نصيبها من المعادن الأرضية النادرة فى أوكرانيا مقابل ما دفعته فى حرب خسرها الغرب كله ، مع تظاهر الاتحاد الأوروبى ومعه بريطانيا بطرح خطة سلام ، ووقف إطلاق نار ، يريد "زيلينسكى" أن يجعله مقصورا على البحر والجو ، بينما لا تبدى موسكو رغبة فى وقف القتال اليوم ، وتصر على تحقيق كامل أهدافها فى حرب أوكرانيا ، واعتراف الغرب كله بحقائق الأمر الحربى الواقع ، والتسليم بسيطرة موسكو على شبه جزيرة القرم والأقاليم الأربعة شرق نهر "دنيبرو" ، مع رفض وجود أى قوات أوروبية فى غرب أوكرانيا تحت عنوان حفظ السلام أو غيره ، ولا يبدى "ترامب" رغبة فى منح حماية أمريكية لقوات أوروبية فى أوكرانيا ، وتكتفى إدارته بإتمام اتفاقية المعادن لصالحها ، واعتبارها فى ذاتها ضمانة كافية تقدمها واشنطن ، مع الاستعداد المتدرج لإلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو ، واستحداث مشاركات مع الروس للتنقيب عن المعادن فى أراضى روسيا ذاتها ، أو فى الأراضى التى أضافتها روسيا من شرق وجنوب أوكرانيا .
ملامح الاتفاق
وبالجملة ، بدت العشر دقائق الصاخبة بالمكتب البيضاوى ظاهرة فى مغزاها ، وناطقة بملامح الاتفاق الذى يسعى إليه ترامب مع روسيا ، فالرجل المتسلط المفترى على "زيلينسكى " ، لن يكف عنه حتى يخلعه من رئاسة أوكرانيا ، ويرميه طعاما للدب الروسى ، ويصدم أوروبا بكشف هشاشتها السياسية والعسكرية ، وجعل استقلالها الدفاعى سرابا ، ويخضعها لما ينوى اتخاذه من إجراءات خشنة ، تلزمها بالخضوع التام ، ومضاعفة ما تدفعه لواشنطن مقابل حمايتها ، إضافة لمضاعفة الرسوم الجمركية المفروضة على صادراتها إلى واشنطن ، وإرغامها على استيراد البترول والغاز الأمريكى ، وفرض نظم حكم يمينية شعبوية "ترامبية" على عواصم أوروبا ، وتجريدها من مزايا الحماية الأمريكية ، وربما من حماية المظلة الأمريكية النووية ، إن لم تدفع نصف التكلفة السنوية لحلف شمال الأطلنطى "الناتو" ، وإعفاء واشنطن من فوائض عبء نحو تريليون دولار تدفعها سنويا ، فترامب يريد جعل أمريكا عظيمة حتى لو حطم الغرب كله ودهس الحلفاء الأقربين .