و الأخيرة

رئيس التحرير
محمود الضبع

المحلل عندما يكون صاحب بصيره نافذه

عبدالحليم قنديل يتوقع تولى جوزيف عون رئاسة لبنان بمقال منشور فى مارس 2021

موقع الصفحة الأولى

لا أحد ينكر نفاذ بصيرة الكاتب والمحلل السياسى الدكتور عبالحليم قنديل فيما يتناوله بالتحليل والسرد بمقالات تفند مجريات الاحداث الهامة محلياً وإقليمياً و عالمياً وتحقق ما يشير اليه قنديل بالحدوث مستقبلاً وكان تحليله بمثابة تقدير موقف بمعطيات واقعية مع دراية عميقة بطبيعة الارض ومن يعيش عليها.

وفى يوم الخميس الماضى الموافق 9 يناير 2025 كانت لبنان تجدد كرتها فى إختيار رئيساً لها بعد عدة محاولات فاشلة بالبرلمان وإنتهى الامر لاختيار جوزيف عون بعد جلسة عاصفة .. والمتابع لمقالات الدكتور عبد الحليم جيداً يجد بينها مقال يحمل عنوان " عون بعد عون" منشور فى 13 يوليو 2021 أى منذ ثلاثة أعوان نصف تقريباً حلل خلالها قنديل الاوضاع فى لبنان وإنتهى الى نتيجة توقعه بتولى جوزيف عون رئاسة لبنان... وإليكم نص المقال :-

   لا أحد يتصور فى لبنان ولا فى خارجه ، أن عون سينقلب على عون ، الأخير هو ميشيل عون رئيس لبنان الحالى ، والأول هو العماد جوزيف عون قائد الجيش ، وليس بينهما نسب عائلى ، كما يوحى اشتراك اللقب ، وقد تولى جوزيف عون قيادة الجيش منذ نحو أربع سنوات ، وهو عسكرى محترف ، بدأ سلم الجيش من قاعدته ، حين تطوع شابا للعمل كجندى نهاية ستينيات القرن العشرين ، وظل يتعلم ويترقى وصولا إلى مقعد القيادة ، الذى يحجز عادة لضابط مارونى ، كما تقضى المحاصصات الطائفية ، وقد خرج جوزيف أخيرا عن صمته العسكرى ، وهو يشهد لبنان يتردى إلى قاع الجحيم ، ورفض أن يقمع المحتجين الثائرين فى شوارع الغضب ، وامتنع عن تنفيذ أوامر الرئيس بفتح الطرق عنوة ، وفضل أن يتفاهم مع الغاضبين ، وأن يقنعهم بفتح بعض الطرق فى بيروت وما حولها ، ثم ذهب العماد جوزيف عون إلى آخر مدى يستطيعه ، و"بق البحصة" التى فى فمه ، وقال أنه حذر مرارا من خطورة الوضع ، وسأل المسئولين المعنيين "على وين رايحين ؟" ، ربما من دون أن ينتظر جواب الرئيس عون ، الذى سبق أن رد على السؤال نفسه قبل شهور فى مؤتمر صحفى ، وقال وقتها بالنص "رايحين على جهنم" (!) .

  وبالطبع ، لا يتوقع أحد انقلابا عسكريا يديره العماد جوزيف عون ، هو فقط أراد أن يوصل صرخته الأخيرة علنا ، وأن يفسر سبب رفض الجيش قمع المتظاهرين ، الذين تجددت نوبات غضبهم المتصلة منذ انتفاضة 17 أكتوبر 2019 ، ووصل بهم الغضب إلى أقصاه مما يجرى ، ويهدد سلامة ما تبقى من الكيان اللبنانى نفسه ، وسط تدهور مريع فى الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، تدنى بقيمة الليرة اللبنانية إلى 11ألف ليرة مقابل الدولار الواحد ، وربما تنزل إلى  13 ألفا قبل أن تنتهى من قراءة هذا المقال ، وقد نزل أكثر من نصف الشعب اللبنانى إلى ما تحت خط الفقر ، وربما ينزل ثلثا الشعب قريبا إلى الهاوية نفسها ، مع تكدس ديون مفجع ، وعجز لأغلبية اللبنانيين عن مواصلة تراجيديا البقاء على قيد الحياة ، فكل يوم لبنانى هو فى شأن أسوأ مما قبله ، على ما يبدو من فيديو راج على نطاق واسع ، يصور حربا أهلية مصغرة على كيس حليب فى أرقى مناطق بيروت ، وهو بؤس لم ينج منه إلا محاسيب أمراء الطوائف الوارثين لحكم لبنان ، وقد استنزفوا البلد ، واعتصروه فسادا ونهبا ، وتكفى ثروة الواحد منهم لحل مشاكل اللبنانيين جميعا ، وهم لا يبالون بما جرى ويجرى ، ولم ينجحوا حتى فى تشكيل حكومة جديدة منذ شهور ، كلفوا بها سعد الحريرى الزعيم الأبرز فى الطائفة السنية ، ومن دون أن ينتقل خطوة واحدة من التكليف إلى التأليف ، بسبب اشتراط الرئيس عون الحصول لجماعته على ما يسمى "الثلث المعطل" ، وعون يبرئ نفسه ، وينسب التعطيل إلى الحريرى ، فيما يتفنن نبيه برى الزعيم الشيعى رئيس مجلس النواب ، ويقدم اقتراحات بتدوير الزوايا ، لم تصل بعد إلى حل ناجز ، فيما رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب يرفع راية الاستسلام ، ويرغب بما أسماه "اعتكافا" ، وإلى أن يتوافق الحريرى وعون ، ويقدمان الهدية للرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون ، الذى وعد بتقديم مساعدات مالية إن شكلت "حكومة المهمة" الموعودة .

  والعماد جوزيف عون ينطق بلسان الحال ، ويوجه الخطاب لحضرات المسئولين ، ويسألهم ببساطة "ماذا تنوون أن تفعلوا ؟" ، فالجيش والشعب فى المأساة نفسها ، ولا يعقل أن يضرب الجنود الجائعون أقرانهم من المتظاهرين الجائعين ، فقد تبخرت قيمة رواتب العسكريين كالمدنيين ، وفقدت ميزانية الجيش الضئيلة قيمتها الفعلية ، ولم يعد بوسع الجيش سوى أن يتلقى معونات أجنبية ، تسد بعض رمقه واحتياجاته ، ولا يستطيع أن يتحرك لإصلاح ، ولا أن ينفذ انقلابا ، لن يبقيه فى السلطة ليوم ولا لبعض يوم ، فأمراء وملوك الطوائف ، يملكون السلطة كلها ، وتوازنات الجيش الطائفية ، تحجزه عن فرصة عمل سياسى موحد ، وأمراء الطوائف اتخذوا لأنفسهم أزياء عصرية ، فى صورة أحزاب ودساتير ومواثيق وانتخابات وهيئات ، جعلت الدولة فى لبنان أشبه بشركة مساهمة ، لكل طائفة فيها سهم معلوم ، وثورات الشعب اللبنانى فشلت فى إزاحة جبال الهم ، ووضعوا فى مواجهتها انقسام الشوارع الطائفية ، التى يتحصن بها الرئيس عون باسم حقوق المسيحيين ، وباسم حقوق الطائفة المارونية ، التى تزايدت فيها الشروخ ، وعجز البطريرك المارونى بشارة الراعى فى الوساطة بين الحريرى وعون ، ثم أخذ الأمر فى يده ، استنادا إلى ثقله الدينى ، وطالب بمؤتمر دولى ينتهى إلى إعلان "حياد لبنان" عن كل ما حوله ، وشن حملة ضارية على ما يسميه "السلاح غير الشرعى" ، فى إشارة إلى سلاح "حزب الله" ، وهو ما استفز احتقانا طائفيا مقابلا ، يهدد بقاء الكيان اللبنانى على علاته ، ويضرب فأسا فيما تبقى من جذور سلام لبنان ، وبما يستدعى أشباح خطر ماحق ، قد ينزلق بلبنان مجددا إلى حافة احتراب أهلى .

مقاومة وضعت أنف إسرائيل فى الركام

وقد لا يخفى على أحد عاقل ، أن دفع لبنان إلى حرب أهلية جديدة ، فوق مآسى التجويع والتدمير ، هو الرابط الجامع بين المتربصين بلبنان ، بدءا من كيان الاحتلال الإسرائيلى ، وإلى المطبعين والمتحالفين معه خليجيا ، وبدعوى تعبئة الشعب اللبنانى ضد سلاح "حزب الله" الموالى لإيران ، ولعجزهم عن تدمير إيران ، أو دفع الراعية أمريكا للقيام عنهم بالمهمة ، فإنهم يلجأون إلى خيار إنهاك لبنان الصغير ، وحجب أى عون عنه ، وتركه يحترق داخليا ، وهذه خطط مرئية معلنة ، وليست مجرد مؤامرات فى طى الكتمان ، وهى المعطل الخفى الظاهر لأى جهد يسعى لإنقاذ لبنان ، سواء من داخله بانتفاضات الطموح لتأسيس دولة مدنية على أساس المواطنة لا محاصصات الطوائف ، أو من خارجه بجهد المقل من أطراف عربية ، تدرك أن دمار لبنان لا قدر الله ، يعنى نكبة عربية قاصمة للظهر ، تضاف لنكبة فلسطين ودمار العراق وسوريا واليمن ، وجريمة هذا البلد الصغير الجميل عند من يريدون تدميره ، أنه أنجب مقاومة وضعت أنف إسرائيل فى الركام ، وأرغمتها على الانسحاب الذليل من الجنوب اللبنانى ، وشكلت قوة الردع العربية الباقية الوحيدة ضد إسرائيل فى المشرق العربى ، وصحيح أن إيران هى التى دعمت "حزب الله" بالسلاح والمال ، وصحيح أن إيران مدت نفوذها الثقيل عبر "حزب الله" إلى شواطئ البحر المتوسط ، لكن الصحيح أيضا ، أن إيران توحش دورها مع غياب أى مشروع عربى مقابل ، وأن عجز العرب وتبعيتهم المزمنة لأمريكا وخضوعهم لإسرائيل ، هو الذى زاد توسع إيران ، التى يريد البعض جعلها العدو الأول للعرب بدلا من إسرائيل ، التى صارت صديقا وحليفا وآمرا لنظم عربية بليدة متكاثرة كالفطريات ، وكأن العروبة فى ظنهم هى طاعة إسرائيل فى المنشط والمكره ، وكأن بنيامين نتنياهو عندهم هو الزعيم الجديد للقومية العربية ، وهو سفه لو تعلمون عظيم ، يغرى أثرياء البترول بخنق لبنان ، وتقديمه قربانا على مذبح إسرائيل (!) .

 

  وقد يكون تشكيل حكومة لبنانية جديدة ، إن تشكلت ، مانعا موقوتا لصواعق حرق لبنان ، واستعادة للحد الأدنى من فرص بقاء الكيان اللبنانى على هشاشته ، وإن كانت الصيغة اللبنانية سوف تبقى دائما فى خطر ، ما لم يتم التحول إلى نظام وطنى مدنى بديل عن النظام الطائفى المهترئ ، الذى لا يليق بحيوية لبنان الأكثر نضجا عربيا ، والصورة الأفضل قد يطول زمان الوصول إليها ، خصوصا مع شراسة هجمات المتربصين ببقاء لبنان من الأصل ، وربما تكون الضمانة الأهم لسلامة لبنان فى هذه المرحلة ، أن يبقى الجيش اللبنانى على ضعفه موحدا ، وأن يبقى على حسه الوطنى الجامع ضد التهديدات الإسرائيلية ، وفى السلوك اللافت لقائده الحالى العماد جوزيف عون ، ما قد يذكرنا بأدوار تاريخية ناصعة لقيادات الجيش اللبنانى ، بينها موقف الجنرال فؤاد شهاب ، الذى رفض تنفيذ أوامر الرئيس كميل شمعون بقمع انتفاضة 1958 ، وصار بعدها شهاب رئيسا للبنان فى أزهى فتراته ، قبل أن يتفتت الجيش ، وتدور الحرب الأهلية ، التى بدأت أواسط السبعينيات من القرن الفائت ، وبعد توقف الحرب باتفاق الطائف ، صار الجيش موردا غالبا للتوافق على اسم الرئيس المارونى ، وعلى طريقة ما جرى لقادة جيش سابقين ، صاروا رؤساء للبنان مع تغير الظروف ، مثل الرؤساء إميل لحود وميشيل سليمان وميشيل عون الرئيس الحالى ، وقد لا يستبعد أن يأتى جوزيف عون للرئاسة بعد ميشيل عون.

تم نسخ الرابط