ابكي ابكي يا عروبة.. ع اللي بناكي طوبة طوبة
نبوءة الجماهير بمستقبل مصر والعرب بعد وفاة جمال عبد الناصر
في الخامس عشر من يناير من كل عام تتجدد ذكرى ميلاد الزعيم جمال عبد الناصر، صاحب أكبر جنازة شعبية في التاريخ، تلك الجنازة التى سار فيها عشرات الملايين في مصر والوطن العربي بالتزامن مع تشييع الجثمان إلي مثواه الأخير حيث الضريح الذي يحمل اسم الزعيم بكوبري القبة.
كان لافتا وقتها تلك التنبؤات التى أطلقتها الجماهير المصرية والعربية بحدوث تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية على مصر والعالم العربي الذي كان ينظر إليه باعتباره رمز العروبة، حيث أطلقوا هتافات مدوية "يا جمال يا عود الفل من بعدك هنشوف الذل"، و "ابكي ابكي يا عروبة، ع اللي بناكي طوبة طوبة"، وكأنهم يقرأون الطالع ويستلهمون ما هو قادم، وينظرون إلى المستقبل نظرة ثاقبة.
أستيكة السادات
كانت الحقبة الناصرية، بما لها وما عليها، تعبيرا عن تطلعات الجماهير المصرية والعربية في العمل علي تحقيق حلم القومية العربية والوقوف في وجه القوي الاستعمارية التى استنزفت الشعوب، وهو ما حققه ناصر الذي أصبح بعد حرب السويس رمزا لمناهضة الاستعمار وأيقونة للتحرر ليس في العالم العربي فقط وإنما لكل المتطلعين للاستقلال والحرية حول العالم.
ولي زمن جمال عبد الناصر بلا رجعة، ووجد المصريون أنفسهم بعد سنوات قليلة من حكم الرئيس أنور السادات أمام سياسة جديدة عبرت عنها النكتة الشهيرة التى تلخصها عبارة "أن السادات يسير على خُطى جمال عبد الناصر ولكن بأستيكة"، حيث تحققت نبوءة الجماهير بإحداث تغييرات جذرية في المجتمع، كانت أولها تلك التغيرات الاجتماعية التى صاحبت قرار الانفتاح الاقتصادي بداية عام 1974 وأثرت على الأوضاع الاقتصادية للمواطنين بفعل الغلاء الذى ألهب ظهور المصريين وقتها وقضي علي أحلام العدالة الاجتماعية.
وبحسب مؤرخي المرحلة الناصرية، استطاع عبدالناصر تحديد الأولويات التي جعلت من العدالة الاجتماعية الحل الأمثل التي لا يمكن أن تتحقق إلا بتذويب الفوارق بين الطبقات, لذلك جاء مشروعه المنحاز للفقراء منذ اللحظة الأولى ليوجه ضربات قاسمة إلى الاقطاعيين والرأسماليين الأجانب الذين لم يتجاوز عددهم 700 شخص كانوا يحوزون الثروة والسلطة والنفوذ, فكان قانون الاصلاح الزراعي وقرارات الـتأميم والتمصير ثم القرارات الاشتراكية, وهو ما أتاح الفرصة لتذويب الفوارق بين الطبقات, وإتاحة فرص التعليم والعمل أمام الجميع وهو ما حقق مجتمع الكفاية والعدل إلى حد كبير, حيث تغيرت الخريطة الطبقية للمجتمع المصرى ونمت الطبقة الوسطى بشكل غير مسبوق في تاريخ المجتمع المصرى
رسالة جابر السوهاجي
إلتصاق جمال عبدالناصر بالفقراء وتعاطيه المباشر مع شكواهم، كان محور مئات الروايات داخل القري المصرية في الدلتا والصعيد، التى تلخصها تلك الرواية حيث كان ناصر فى إحدى زياراته لصعيد مصر عندما توقف القطار في إحدى المحطات ففوجئ ناصر ومرافقيه برجل بسيط يصيح "أنا جابر السوهاجى يا ريس" ويلقى بصرة داخل الديوان الذى يقف فيه عبد الناصر ورفاقه وقعت بين أرجلهم وظهرالارتباك علي الجميع, وسارع أحد ضباط الحراسة الخاصة بالتقاط هذه الصرة بحذر, وبعد فتحها كانت المفاجأة أن الصرة لا تحوي إلا رغيف من الخبز الناشف وبصلة في منديل محلاوى, ولم يفهم أحد من الحضور لماذا رمي الرجل بهذه الصرة؟ إلا أن عبدالناصر كان الوحيد الذي فهم معنى الرسالة, وأطل برأسه بسرعة من القطار وأخذ يرفع صوته في اتجاه الرجل الذي ألقى بالصرة قائلا له: "الرسالة وصلت يا أبويا, الرسالة وصلت", وفور الوصول إلى أسوان طلب جمال عبد الناصر تقريرا عاجلا عن عمال التراحيل وأحوالهم المعيشية, وفي خطابه مساء نفس اليوم في أسوان قال: "يا عم جابر أحب أقولك إن الرسالة وصلت, وإننا قررنا زيادة أجر عامل التراحيل إلى 25 قرشا في اليوم بدلا من 12 قرشا فقط, كما قرر تطبيق نظام التأمين الاجتماعى والصحى على عمال التراحيل لأول مرة في مصر
القومية العربية
ولم يكن تبدل الظروف الاقتصادية والتحول إلي النظام الرأسمالي، هو التغير الوحيد، وإنما أيضا جاء الصلح مع إسرائيل، كأول مسمار في نعش القومية العربية، حيث اختفي مع ناصر حلم الوحدة بحسب نفس النبوءة التى ظهرت يوم رحيله " ابكي ابكي يا عروبة.. ع اللي بناكي طوبة طوبة"
عاش عبد الناصر من أجل فلسطين ومات من أجلها، هذا هو الشعار الذي رفعه شعب فلسطين الذي ظل فيا له ولقضيته التى أضحت قضية العرب الأولي، ولكن تبدلت الأوضاع مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد ومعادة السلام المصرية الاسرائيلية وانفصل العرب عن قضيتهم، وماتت أحلام الوحدة والتكامل والقومية العربية.
زعيم الفقراء
استحق جمال عبد الناصر لقب زعيم الفقراء, وزعيم القومية العربية فقد انحاز لهما قولا وفعلا, واتخذ من أجلهم العديد من الاجراءات الحاسمة, ودخل في العديد من المعارك لإنصافهم, وتحمل ما يفوق طاقة البشر من الضغوط المحلية والإقليمية والدولية لكى يتراجع عن مواقفه وسياساته الاقتصادية والاجتماعية الداعمة للفقراء في مصر والوطن العربي والعالم الثالث, لذلك حين رحل عن عالمنا خرجت الجموع الغفيرة في مصر والعالم لوداعه, ومازالت ترفع هذه الجماهير صوره في كل مناسبة وفي كل بقاع الأرض كرمز للعدالة الاجتماعية.
غاب عبدالناصر ولم تغب صورته في كل الاحداث الكبري التى شهدتها مصر والعالم العربي، تم رفع صورته خلال انتفاضة الخبز عام 1977، وخلال ثورتى 25 يناير و30 يونيو، ومع كل عدوان اسرائيلي علي الشعب الفلسطيني.