و الأخيرة

رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

‎رائد من رواد الوعى القومى، وعبقرية من العبقريات الملهمة، التى التقى فيها سداد الفكر وشجاعة الضمير.
‎هكذا وصف عباس محمود العقاد المفكر العلامه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه: "الرحاله  عبد الرحمن الكواكبي"

‎في يوم 14 يونيو من كل عام، نستذكر ذكرى وفاة أحد أبرز المفكرين العرب، العلامة السيد عبد الرحمن الكواكبي، صاحب الفكر الثاقب والرؤية المستقبلية، الذي قدم للأمة العربية والاسلاميه إرثاً فكرياً غنياً من خلال كتبه الشهيرة "طبائع الاستبداد" و"أم القرى".

‎ولد الكواكبي في حلب عام 1855، وكان شاهداً على فترة من أشد الفترات اضطراباً في تاريخ العالم العربي. ثائراً ضد الاحتلال العثماني. تميز بفكره النير وقدرته الفريدة على تحليل الواقع السياسي والاجتماعي، وتقديم الحلول الناجعة لمشكلات القيادة والنهضة بالأمة. لقد كان الكواكبي بحق مفكراً سابقاً لعصره، حيث استشرف بحدسه الثاقب الأزمات والتحديات التي تواجه المجتمعات العربية والإسلامية.

‎يعد كتاب "طبائع الاستبداد" أحد أهم أعمال الكواكبي حيث تناول فيه بأسلوب علمي ودقيق مفهوم الاستبداد وأثره المدمر على المجتمعات. لم يكتفِ الكواكبي بوصف الظاهرة، بل أمعن في تحليل أسبابها وآلياتها، مما جعله مرجعاً مهماً لكل من يسعى لفهم جذور الطغيان وآثاره.

‎ركز الكواكبي على أن الاستبداد ليس مجرد نظام حكم، بل هو ثقافة تتغلغل في جميع جوانب الحياة، وتعيق تطور الأمة ونهضتها. كما دعا إلى ضرورة الوعي الجماهيري والتربية على قيم الحرية والعدالة كسبيل للخلاص من هذا الكابوس.

‎أما في كتابه "أم القرى" الذي احيا فيه الروح الجماعيه فقد جسد الكواكبي رؤيته للنهضة الشاملة من خلال حوار تخيلي بين ممثلين عن مختلف الدول الإسلامية، تناول الكتاب قضايا الوحدة والتعاون بين الشعوب الإسلامية، وأكد على أهمية العودة إلى قيم الدين الحنيف كمنطلق للنهضة والإصلاح.

‎أبرز الكواكبي في "أم القرى" ضرورة تجاوز الخلافات الطائفية والعرقية، والعمل بروح جماعية لتحقيق الأهداف المشتركة. كما شدد على دور العلماء والمفكرين في قيادة الأمة نحو التقدم والازدهار.

‎بعد النظر وقدرة الإبداع

ما يميز عبد الرحمن الكواكبي ليس فقط عمق تحليلاته، بل أيضاً قدرته على طرح حلول عملية لمشكلات القيادة. كان يؤمن بأهمية التعليم والإصلاح الاجتماعي كركيزتين أساسيتين لبناء مستقبل أفضل. دعا إلى تجديد الفكر الديني وإعادة تفسير النصوص بما يتلاءم مع متطلبات العصر، مشدداً على أن الدين يجب أن يكون دافعاً للتقدم وليس عائقاً أمامه.

‎كما دعا الكواكبي إلى تبني نظم ديمقراطية تعزز من مشاركة الشعوب في صنع القرار، وتضمن العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع. كان يرى في الحرية أساساً لكل نهضة، وفي الاستبداد العائق الأكبر أمام أي تقدم.

‎عبد الرحمن الكواكبي، المفكر الإصلاحي السوري، يُعد أحد أبرز رموز النهضة الفكرية في العالم العربي خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

‎أفكار الكواكبي لم تقتصر على العالم العربي، بل امتدت لتؤثر في الفكر السياسي والاجتماعي في الغرب أيضًا. كتابه الشهير "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" تُرجم إلى العديد من اللغات، وأصبح مرجعًا هامًا في دراسة النظم الاستبدادية وأثرها السلبي على المجتمعات. تأثر العديد من المفكرين الغربيين بفكره، إذ رأوا فيه منارة توجيه نحو الحريات والحقوق المدنية.

‎تكريمًا لإسهاماته الفكرية العظيمة، قامت العديد من المدن العربية بتسمية شوارع وجوامع ومدارس باسمه مثل سوريا والقاهرة وفي طرابلس ليبيا. هذا التكريم ليس فقط اعترافًا بإسهاماته، بل هو أيضًا رسالة للأجيال الجديدة لتبني فكره ونهجه الإصلاحي.

‎ومن هنا، تأتي ضرورة إعادة ادراج أفكار الكواكبي التقدمية في مناهج التعليم المدرسيه. فالشباب هم عماد المستقبل، وتعليمهم كيفية القيادة السليمة بفكر مستنير ومسؤول يساهم في بناء مجتمعات حرة ومتقدمة.

‎كانت حياة الكواكبي مليئة بالمواقف الإنسانية، فقد تميز بطيب قلبه وكرمه الكبير، مما جعله محبوباً بين الناس. تزوج الكواكبي من امرأة أحبها بصدق وأنجب منها ٧ أطفال، وقد كانت شريكة حياته الداعمة له في جميع مساعيه. لم تكن زوجته مجرد رفيقة حياة، بل كانت سنداً حقيقياً له في مسيرته الإصلاحية، يبادلها الحب والاحترام، ويعتبرها جزءاً أساسياً من نجاحاته.
‎كان عبد الرحمن الكواكبي أباً محباً لبناته، وقد حرص لتوفير كل سبل الراحة والتعليم لهن. كان يؤمن بأن المرأة لها دور كبير في المجتمع، لذا كان يشجع بناته على تعلم الحرف والمهارات التي تساعدهن على الاعتماد على أنفسهن ومواجهة تحديات الحياة.

‎عرف الكواكبي 

بمساعدته المستمرة للفقراء والمظلومين. كانت مهنته كمحامٍ وسيلة لتحقيق العدالة ونصرة الضعفاء، حيث لقب بمحامي الضعفاء وكان يدافع عن حقوق الفقراء والمستضعفين دون أن يطلب منهم أجراً، إيماناً منه باهمية نصرة الحق والعدل.

قصة حجاب النور التي حركت ضمير الكواكبي لمعالجة قضية الرق في المجتمع:

‎في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت قضية الرق تشكّل جزءًا كبيرًا من واقع المجتمعات العربية والاجنبيه. في هذا السياق الاجتماعي الصعب، برز عبد الرحمن الكواكبي كواحد من أبرز المثقفين والمفكرين الذين وقفوا ضد هذه الظاهرة وسعوا لإحداث تغيير جذري في مجتمعهم. واحدة من القصص التي أثّرت بشكل كبير على الكواكبي ودفعته للكتابة و لتنوير العقول ونشر الوعي ضد الرق كانت "قصّة حجاب النور". رأى في قصتها انعكاسًا لمعاناة الآلاف من النساء والرجال الذين كانوا ضحايا للرق والاستعباد، حيث بدأ في نشر مقالاته وأبحاثه التي تهاجم بشدة نظام الرق وتدعو لتحرير العبيد وإعادة كرامتهم. كان يعتبر الرق ليس فقط ظاهرة اجتماعية بغيضة، بل جريمة ضد الإنسانية وتناقضًا مع تعاليم الإسلام التي تدعو إلى العدل والمساواة.
‎وقد تبنى قضيته المصلحين الاجتماعيين وسعوا بدورهم لإحداث تغييرات إيجابية في مجتمعاتهم.، مما يساهم في بناء مجتمع أكثر عدالة وإنسانية.

 

‎خادمة السودانيه ولدت في بلد اسمها سنار . حكت قصتها إلى احفاده المباشرين عبد الرحمن و سعد زغلول قائلة: والدي كان شيخا في مسجد البلدة، يُعلّم الأطفال قراءة القرآن، وقد سماني  حجاب النور. كنا نخرج لجمع الخضار والفواكه من غابة قريبة بسبب فقرنا، لنعود بها ونأكلها في البيت مع اخوتي الصغار. وفي احدى الجولات، وبينما كنا في طريق الغابة عند مطلع الشمس، انتحيت مكانا قصيا خلف شجرة لقضاء الحاجة. فإذا بكف قوية من خلفي تطبق على فمي، وبأيد كثيرة تطوقني، فأُحمل بعيدا، وهناك يُكمُّ فمي بشريط وتُعصب عيناي وأُحمل على دابة أمام رجل يمتطيها الى ان ترجلنا على مسافة بعيدة. ولما فكوا العصابة عن عيني وجدت نفسي بين مجموعة من الأطفال عرفت واحدا منهم فقط من أهل بلدتنا. جلست مثلهم على الأرض موثقة اليدين مكمومة الفم، ثم وزعونا على أماكن أخرى. وفي اليوم التالي أعادوا عصب عيني، وشعرت بأنهم أركبونا في قارب. ولم أُبصر إلا حينما أزالوا العصابة عن عيني فإذا نحن على شاطئ بحر لم اعرفه في حياتي. سرنا فيه حتى بلدة قالوا ان اسمها جدة. فأفردوا البنات عن الصبيان، كل نوع في حظيرة. وبعد أيام أمضيتها في البكاء والعويل والضرب المبرح عرضوني على أحد الحجاج الحلبيين فاشتراني، وجاء بي الى حلب، وأطلق عليّ اسم سعيدة. وأمضيت في خدمة هذا الحاج سنتين تقريبا ذقت خلالهما الأمرّين، وكانت اصوات استغاثتي تصل الى الجيران.!

‎لم يستطع السيد الكواكبي ان يقف مكتوفا وهو يسمع بتعذيب تلك الفتاة فذهب بنفسه إلى جاره وأنّبه فاحتجَّ الجار بأنه تكلف لشرائها في موسم الحج مئة ليرة عثمانية ذهباً ولكنها لا تنفع في الخدمة. فعرض الكواكبي عليه شرائها منه بنفس المبلغ و وافق الرجل، اخذ الكواكبي  الطفلة وأعتقها، لكنها أخبرته أنها لا تعرف أحداً في المدينة وأنها قد خطفت من قريتها “سنار” وبيعت لهذا الحاج في مدينة “جدة” فجاء بها إلى حلب، فكان الحل ان تبقى في بيته لريثما تتهيأ له إعادتها إلى أهلها اذ انه سيرحل إلى مصر ومنها يوصلها إلى السودان ووافقت الطفلة.
‎جاء بها إلى زوجته وأولاده قائلاً لهم: هذه أخت جديدة لكم ترعاكم وترعونها. وسترافقكم إلى مصر يوم أستدعيكم للّحاق بي لأوصلها إلى أهلها بالسودان.
‎غادر الكواكبي أهله ومدينته في رحلة امتدت من دمشق إلى بيروت ثم الإسكندرونة ثم إسطنبول الى يافا فالقدس فالإسكندرية فالقاهرة فالحديدة فصنعاء فعمان فجيبوتي فالصومال فبومباي، ثم انعطف إلى الجزيرة العربية وتوغل في الربع الخالي على ظهور الجمال إلى الخليج العربي والبصرة، ثم انعطف إلى مكة فمصر مخبراً زوجته بأنه سيرسل لها برقية مشفّرة ليوافوه إلى مصر مع الفتاة السودانيه. ولكن شاء القدر ان يسممه العثمانيين ويقتل وينتهي امل الفتاة …
‎وصلت برقية إلى زوجته تنعيه وسط الألم والحزن الذي أطبق على العائله كلها، لم تلتحق به أسرته ووقفت حياة  الفتاة السودانيه.

‎كم تعذبت في رجائها الخائب وحنينها اللاهب الى العودة الى ديارها! لقد بقيت عند آل الكواكبي معززه مكرمه بقية حياتها كلها ومع ذلك في أيامها الأخيرة، حينما مرضت، كانت تهذي، وتطلب ان تسمع من الجميع كلمة العتق مرة ثانيه وفعلوا طبعا مؤكدين عليها بانها واحدة منهم. ولما اشتد عليها المرض قبيل وفاتها كانت تردد: أنا مشتاقة لأمي. آه، مَن يأخذني إليها. اكتبوا لها ان حجاب النور تموت...
‎هذا جزء من شخصية المفكر السيد عبد الرحمن الكواكبي سليل آل البيت ونقيب اشراف حلب الذي نترحم عليه كلما ذكرناه. في جنة الخلد ان شاء الله
 

تم نسخ الرابط