الأولى و الأخيرة

موقع الصفحة الأولى

بعدما هدأت العاصفة، عاصفة الإعلان عن تدشين مركز تكوين وذلك من اجل تعزيز الفكر الحر والنقاش المفتوح في المجتمع العربي، وتشجيع البحث العلمي والتفكير النقدي في القضايا الدينية والفكرية.، هذا ما أعلنه الأعضاء المؤسسين، وقد انبرى الكثير من المتدينين لمهاجمة هذا المركز وأشخاصه دون ان يلتقطوا انفاسهم من النقيض للنقيض

وطبعا من الغرض المعلن نفهم ان مركز تكوين معني بمناقشة ونقد التراث، والتعريف الجامع المانع للتراث هو ماله قيمة باقية من عادات وآداب وعلوم وفنون وينتقل من جيل إلي جيل، ودائماً ما يعرف بالإضافة، كتراث الآباء، والتراث الإنساني والتراث الإسلامي والتراث الأدبي والتراث العلمي وهكذا

ولذلك فقد ظهر علم يسمى علم تحقيق التراث وهو علم معني بالبحث فيما تركه السلف مكتوبا وتنقيحه من حيث نسبته وصحته وإعادة نشره بشكل واضح ومنظم وموثق

وهنا يثور سؤال: أي تراث يجب نقده؟ وأي تراث يجب الدفاع عنه؟

ان كثير من علماء ومفكري الأمة هالهم مستوى التردي الذي وصلت له الأمتين العربية والإسلامية فأصبحت الأمة مستهلكة غير منتجة وضعيفة غير قوية تعتمد على غيرها من الأمم حتى أصبحت وبحق أمة متسلقة وكما قال الدكتور الطيب حتى أن غيرنا من الأمم هم من يفكرون لنا ويخططون ويقررون لنا حاضرنا ومستقبلنا، ووصل مستوى التردي والخبل لظهور جماعات مثل القاعدة وداعش وغيرها تستخدم قتل الأبرياء سبيلًا وترويع الأمنيين منهجًا، حتى وصل بنا الحال ونحن نتابع جز الرؤوس وحرق الأحياء على شاشات التلفاز، ومن يقوم بهذا الفعل الشنيع يدعي أنه يقتضي بفعل النبي والصحابة المقربين وهم من ذلك بُرآء ولكن فهمه المعوج لنصوص تراثية ما أنزل الله بها من سلطان ألبسوها ثوب القداسة ووضعوها في صياصٍ عالية بأسوار قاصية لا يدنوا من قداستها أحد ومن يحاول مجرد المحاولة مناقشتها وإعادة تقديرها يواجه بحرابٍ مصوبة وسهامٍ مسومة وسيوفٍ مشرعة، مكتوب عليها أصح كتاب بعد كتاب الله والأول لم يجعل للآخر مقالا وغيرها من كلمات القداسة المزيفة والتي تلعب بعقول العوام وتحرك أركان الدهماء والغوغاء، ويكون نصيب المحاول القتل جزاً أو الحرق حياً

أما الأزهر الشريف الذي ظل ألف سنة أو يزيد صرح إسلامي عتيد يلوذ به أهل بحري والصعيد ليتعلموا قواعد الدين حاميًا لهم من التهويل والتهوين، قد هاله ظهور بعض الكتاب والمفكرين استغلوا افعال القتلة والمجرمين من أعضاء القاعدة والداعشيين، لينقضوا على العروبة والدين، منكرين سنة إمام المرسلين، ولم يسلم من غاراتهم آيات القرآن المبين، فكان من واجبه الدفاع عن التراث دفاعه عن أصول الدين وهوية الأمتين العربية والإسلامية من غارات الحاقدين وافتئات المُفتئتين وهدم المخربين، فوقف مدافعً عن التراث بما فيه من رث وثمين

والحق ان القرآن الكريم ليس تراثًا، لأن التراث إنساني كما أوضحنا في تعريفه هو متعلق بعادات وآداب وعلوم وفنون البشر فهو متعلق بإنتاج إنساني بشري، ونحن نؤمن بأن القران هو كلام الله وليس انتاجاً بشريا يخضع للنقد، ولكن ما يمكن ان يخضع للنقد والتحليل هو مجرد فهمنا للنص القرآني لكونه عمل إنساني وإنتاج فكري بشري فتحكم النسبية صحته وفاسدة ويبقى النص الأصلي حق مطلق لا يمكن ان تجري عليه أي عملية تغير وإلا اعتبر ذلك تحريف وتجديف يخرج صاحبة من ملة الإسلام

اما ما دون القرآن فهو عمل بشري وإنتاج إنساني بما في ذلك الحديث المنسوب للنبي عليه الصلاة والسلام، والسبب ببساطة ان الحديث ينسب للراوي ولا ينسب للمروي عنه عليه الصلاة والسلام، ويحتاج لمعرفة رواته وطبقاتهم ودرجاتهم وأزمانهم والقول في اخلاقهم جرحا وتعديلا، ثم يحتاج لمراجعة متنه ودرجة موافقته لأي نص آخر أو معارضته له وقد كان لابن تيمية محاولة جيدة في درء التعارض ما بين المنقول والمعقول

اسمع احدكم يهمس ويقول ان القران بلغنا ووصلنا بنفس الطريق الذي وصلنا به القرآن، فهناك من قال بالحرف الواحد(أما بالنسبة لموضوع التواتر، فأعتقد إنه من التناقض أن تؤمنوا بأن القرآن وصلنا بالتواتر وبدون تدليس ولا تخريب في حين أن الأحاديث التي وصلتنا بالتواتر أيضا اعتبرتم إنها محرفة وملفقة. فما الفرق إذا بين هذا التواتر وذاك؟

إن البون واسع والهوة سحيقة والفرق شاسع بين هذا وذاك، أوجه الاختلاف بين التواترين كثيرة منها

أولا: الكتابة

كتب القرآن بيد رسول الله وقت التنزيل والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى"وقالوا اساطير الاولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة واصيلا" الفرقان 5، ولو لم يكتبها رسول الله بيديه ما قال الكفار أكتتبها، بل كتابة رسول الله للقرآن معجزة في حد ذاتها وإثبات نبوته، لأنه من قبل لم يكن يكتب أو يخط بيمينه إذا لارتاب المبطلون، قال تعالى"وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك اذا لارتاب المبطلون"العنكبوت48، وكان الرسول عند التنزيل يحرك به لسانه حتى يتأكد من حفظه، وبعد الوحي يستطيع كتابته ولا ينسي منه شيء فقال له رب العزة سبحانه وتعالى"لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) [سورة القيامة]

ولا يمنع كون رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه أن تكون الصحابة أو بعضهم كتبه أيضا وتعد كتاباتهم نسخة من الأصل، ما حدث في عهد أبو بكر رضي الله عنه، أنهم استنسخوا عدة نسخ من الأصل، وما حدث في عهد عثمان أنه جمع كل هذه النسخ وحرقها وأبقى على نسخة واحدة برسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسخ من هذه النسخة عدد نسخ مطابقة بنفس الرسم ووزعها على الأمصار على أن ينسخ الناسخون نسخ مماثلة وتكون طبق الأصل من النسخة الأصلية، وقد أقترنت الكتابة بالحفظ، فتواتر نسخه وتواتر حفظه في نفس الوقت.

أما الحديث فقد كان النهي عن كتابته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكتب ولم ينسخ، وحتى بعض الروايات التي قالت على استحياء أن عبد الله بن عمرو كانت لديه صحيفة بها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كذب هذه الرواية في عدم وصول الصحيفة إلينا أو أي من نسخها، كما أن أحدا لم يدعي أنه رأها، وقد أختلفت الروايات فيها إختلافا شديدا، وقد بدأ عصر تدوين الحديث في أوائل الدولة العباسية ولم يكن قد دون من قبل.

فالفرق بين تواتر مبني على الكتابة منذ لحظة نزوله، وبين تواتر مبني على الظن والتخمين والمسافة الزمنية بين كتابته وبين عصر الرسالة أكثر من مائتي سنة فرق كبير، كالفرق بين المشرق والمغرب

 

ثانيا: الحفظ

حاجة المسلم للتعبد بالقرآن في صلاته كل يوم جعلت الكثير من المسلمين يحفظون القرآن وقد تعارف على تسميتهم بالحفاظ، وحتى الآن تجد حفظة القرآن الكريم من كل قطر وبلد والعجيب أنك ترى أناس ليست اللغة العربية لغتهم ولا يعرفونها مطلقا ولا يمكنهم الحديث بها، ولكنهم يحفظون القرآن كله عن ظهر قلب، وهم من كل قطر من أقطار العالم الإسلامي تركيا أندونسيا ماليزيا وغيرهم وهم عندما يفعلون ذلك يصدقون من حيث لا يدروا قوله تعالى" بل هو ايات بينات في صدور الذين اوتوا العلم وما يجحد باياتنا الا الظالمون" العنكبوت49، فالتواتر هنا ليس تواتر إسناد ولكنه تواتر قائم على الفعل (فعل الحفظ)، فالقرآن لا يحتاج أن تقول عن فلان أخبرنا فلان حدثنا فلان، ولكن يكفيك أن تبدأ بالاستعاذة والبسملة ثم تتلوا الآية تلو الآية وهكذا

أما الحديث فلم تكن له حاجة تعبدية وعلى فرض سماع الصحابة لبعض أحاديث وأقوال رسول الله فهم ليسوا في حاجة لترديدها إلا على نطاق ضيق جدا لإختلاف الزمان واختلاف المكان وكان يكفيهم القرآن، كما أن أحدا لم يقل بالتعبد بالحديث، ولكن بعد حوالي مائتي سنة ولأسباب سياسية وفي عصر الجمود (عصر الراعي والرعية) وكأن الخليفة هو وحده الأنسان وباقي الرعية خراف في حظيرته، ومحاولة كل طرف الانتصار على الطرف الآخر بالبحث عن دليل يساعده وطبعا لا يمكن لكلا المتخاصمين الأخذ بالدليل من القرآن وحده، فبدأوا بالبحث عن الحديث وتدوينه، وأيضا دون التعبد به اللهم إلا إستخراج أحكام فقهية منه حتى تم تسبيقه على القرآن فأصبح الحديث ناسخا لأحكام القرآن ولكنهم ظلوا على قولهم (الحكم منسوخ والنص باقي للتعبد) ومن إعجاز حفظ القرآن أنهم قالوا ذلك فلم تمتد يد لتعبث بالقرآن مصداقا لقوله تعالى" انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون" الحجر9.

 

ثالثا: اتفاق الغرماء

أنقسمت الأمة الإسلامية بعد عصر الرسالة ببضع سنين إلي ثلاثة فرق، فريق معاوية (الفئة الباغية) وفريق علي (أمير المؤمنين الشرعي) والخوارج (خرجوا على علي ولم ينضموا لمعاوية) ثم أنقسمت كل فرقة إلي طوائف عديدة، ففريق معاوية ومنهم عصب أهل السنة وأهل السنة أنقسمت فيما بينها فرق كثيرة أشعرية وسنة ومعتزلة ماتريدية وكرامية ثم صوفية وووو، ثم فريق علي وهم عصب الشيعة فقد أنقسموا إلي أثني عشرية وزيدية وجعفرية وموسوية واسماعيلية وسبعوية وعلوية وفاطميه ووووو، ثم الخوارج أنقسموا إلي أزارقة وأباضية وووو، ورغم كل هذه الاختلافات فإن الجميع يتعبدون بقرآن واحد فقط، كما أنهم يؤدون الصلاة خمسا بشكلها الحالي اللهم إلا من اختلافات بسيطة بينهم لا تؤثر على فرض الصلاة.

وإتفاق الغرماء هذا فيه إجابة على السؤال: فما المانع إذا أن قام هؤلاء المدلسين حملة القرآن بإخفاء آيات تكرم هذا وذاك داخل القرآن؟ لأنه وببساطة شديدة لن يكون هناك أتفاق للغرماء في هذه الحالة، ولكن الحادث تاريخيا وواقعيا أنهم أتفقوا على قرآن واحد وكتاب واحد برسم واحد هو ما بين أيدينا الآن، ولا يستطيع أعتى الغلاة أن ينكروا هذه الحقيقة.

أما بالنسبة للأحاديث فالأمر مختلف فكل فرقة لديها أحاديثها ورواتها وكل فريق بما لديهم فرحون، فمثلا حديث الثقلين تقول السنة أن نصه ( كتاب الله وسنتي) وتقول الشيعة أن نصه (كتاب الله وعترتي).

وأعلى أنواع التواتر هو ما اتفق عليه الغرماء، وهذا كائن مع القرآن وغير وارد مع الحديث.

ولكن لا يعني باي حال من الأحوال اخضاع الأحاديث للنقد باعتبارها ضمن التراث الإنساني رفض السنة ولكن المصدر الحقيقي للسنة هو السنة العملية كالصلاة والصوم والزكاة وباقي العبادات، ولا ينكر سنة ومنهاج رسول الله إلا جاهل أو مغرض، أما ما يخضع للنقد والإنكار قضايا مثل إرضاع الكبير واكل لحم الاسير والزواج من ابنة الزنا ونكاح الوداع وغيرها من الأحكام الشاذة التي اعتمدت على احاديث ذات أسانيد معيبة ومتون غريبة دون إضفاء القدسية على نص أو شخص إلا كتاب الله وشخص رسوله عليه الصلاة والسلام.

ونعود الي مركز تكوين واهمس في أذن المؤسسين واقول هناك فرق كبير بين الإصلاح والهدم، بين النقد البناء والطعن الهدام، فطوبى لكل من يحاول إصلاح حال أهله ووطنه ومجتمعه وكل من يحاول ان يعود بالناس ومعتقداتهم الي صحيح الدين القائم على الوسطية والداعي لكل القيم الجميلة والأخلاق الرفعية والأخذ من كتاب الله والذي قال عنه اشد اعداءه ان اعلاة لمثمر واسفله لمغدق وأنه يعلو ولا يعلى عليه، ورد النصوص الشاذة والأحاديث الغريبة الي كتاب الله فما توافق معه قبلناه وما اختلف معه صححناه أو اعدنا فهمه فلو استعصى رفضناه، مع الحفاظ على قدسية الدين وتعظيم شعائره لان ذلك من تقوى القلوب، أما اولئك الذين لم نعرف لهم مذهب ولا ملة، فتارة تظن أنهم ينتمون للسنة وأخرى للشيعة بل تظن في بعض الأوقات أنهم خلعوا ربقة الدين من اعناقهم، وبعضهم الذين على عداء مع التاريخ العربي والإسلامي وأشخاص أبطال المسلمين من عمر بن الخطاب الي صلاح الدين فعندما يدعون الي إصلاح ويؤسسون مركز تكوين فان الشبهات تحوم حول نواياهم، فان أشجار الصبار لا تطرح شهدا، وقريبا سنعرف نواياهم الحقيقية من واقع أعمالهم وان غدا لناظره قريب ولكل حادث حديث، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

 

تم نسخ الرابط