الثقافة الإسلامية لا تعرف التعصب
يهودي يكتب القرآن الكريم بخط يده ومسيحي ينسخ تفسير الطبري مرتين
جاء الإسلام وقد عرف العرب القراءة والكتابة على نطاق ضيق، ولكن الدين الجديد، بما تضمنه القرآن والسنة من إشادة بالعلم والعلماء، والحث على القراءة والكتابة، كان من أول لحظة إيذانا بميلاد "أمة اقرأ"، التي ملأت الأرض علما ومعارف وشغلت الناس ثقافة وآدابا.
وقد اكتمل جمع القرآن وتدوينه في خلافة أمير المؤمنين أبي بكر الصديق، فكان ذلك إشارة لأهمية النسخ والتدوين العلمي في حياة الأمة؛ ولكن القرن الأول بأجمعه ظل قرنا للرواية الشفهية لنصوص الإسلام قرآنا وسنة ولغته العربية، ولم يشهد حركة تدوين للمعارف المنبثقة منهما إلا في حالات محدودة للغاية.
ومع ببداية القرن الثاني الهجري الثامن الميلادي الذي يعرف بـ"عصر التدوين"؛ تفجرت ينابيع العلوم واكتملت دورة إنتاجها الشفهي، فكان لا بد من استيعابها في أطر صلبة تنقلها من الصدور إلى السطور، فتحفظها من الضياع وتجعلها قابلة للتداول بين الناس والتوارث بين الأجيال.
وقد أدت فتوح الإسلام إلى الاختلاط بحضارات مختلفة ونظم ثقافية متباينة في الملل والنحل وذلك في مصر والعراق وفارس والشام وشرق أسيا؛ فجرت مع أصحابها مناظرات جدلية ومناقشات علمية، فازدهرت سوق الترجمة وتوسعت حتى شملت آنذاك أكثر من عشر لغات، فازداد بذلك نشاط التدوين والنشر اتساعا.
وبحسب المصادر التاريخية تعزز ازدهار الكتابة والتدوين بعاملين مهمين: أولهما المكانة العالية التي حازها "كتاب الدواوين" التي كانت تمثل وزارات الدولة منذ العصر الأموي وازدادت أهميتها أيام الدولة العباسية؛ وثانيهما استخدام الورق في الكتابة مع مطلع العصر العباسي، ذلك الاستخدام الذي ترسخ ببناء أول مصنع للورق ببغداد أيام هارون الرشيد في سبعينيات القرن الثاني الهجرى.
وبذلك عرف الناس صناعة الكتاب، ثم سرعان ما أصبحت صناعة مهمة من صنائع المدنية في الحضارة الإسلامية تُدعى "الوِراقة".
وعملت فيها طائفة كبيرة من الناس تسمى "الوراقين" ضمت في عضويتها كافة أطياف المجتمع الفكرية والأدبية، وطوائفه الدينية والمذهبية؛ ووضعت لها ضوابط وأعراف، وخصصت لها أماكن وأسواق، ونشأت في فضائها فروع وتخصصات، وتحصلت منها لأصحابها أموال وثروات.
مسيحى ينسخ التفاسير
ولم يكن غريبا أن يكون من بين هذه الطائفة مسيحيين ويهود، فقد نقل أبو الفرج محمد بن إسحق البغدادي الوراق المعروف بالنديم أو ابن النديم في كتابه "الفهرست" عن الفيلسوف المسيحي يحيى بن عدي المنطقي أنه أخبره قائلا: نسختُ بخطي نسختين من التفسير للطبري وحملتهما إلى ملوك الأطراف، وقد كتبت من كتب المتكلمين ما لا يحصى"
من الناحية التاريخية؛ ارتبطت "الوراقة" في البداية بوصفها مهنة باحتراف نسخ القرآن الكريم تكسُّبًا، كما ذكر أبو الفرج محمد بن إسحق البغدادي أن الناس "كانت تكتب المصاحف بأجرة"، ووثق لنا أسماء عدد ممن كانوا معدودين ضمن "كتاب المصاحف".
وهو ما يؤكد أن صناعة المعرفة بلغت من القوة والانفتاح في الحضارة الإسلامية مبلغا عظيما جعل احترافها متاحا حتى لغير المسلمين دون أن يقابل بأي رفض أو استنكار، حتى وإن كان ذلك الاحتراف متصلا بميدان شديد الخصوصية في الإسلام، ألا وهو تفسير القرآن الكريم.
كما روى الإمام البيهقي في كتاب دلائل النبوة، أن أحد المثقفين اليهود كان "حسن الخط" فأسلم وروى قصة إسلامه للخليفة العباسي المأمون فقال: "عمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ وزدت فيها ونقصت، وأدخلتها إلى الوراقين فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها؛ فعلمت أن هذا كتاب محفوظ فكان هذا سبب إسلامي".
ولم يصلنا أن كتابة هذا اليهودي للمصحف استجلبت إنكارا من الخليفة أو من الوراقين المسلمين، رغم اشتهار قصته التي حكاها في بلاط الخلافة الإسلامية في عز قوتها، بل إن محدثا عظيما مثل البيهقي أوردها ، مؤكدا لصحتها، في سياق البرهنة على حفظ القرآن الكريم من التبديل والتحريف حتى ولو كان كاتبه من غير المسلمين.
وكان أول من عرف بتخصصه في وِراقة المصاحف عمرو بن نافع مولى عمر بن الخطاب، لكن النديم عزا إلى المؤرخ محمد بن إسحق أن "أول من كتب المصاحف في الصدر الأول وكان يوصف بحسن الخط خالد بن أبي الهياج، لعمله "ورّاقا" للخليفة الوليد بن عبد الملك.
بداية مهنة الوراقين
بيد أن أول من أطلق عليه لقب "الوراق" هو أبو رجاء مطر بن طهمان الخراساني البصري الذي اشتهر بـ"مطر الوراق"، فقد ذكر الإمام جمال الدين المزى في ‘تهذيب الكمال‘- أنه "سكن البصرة وكان يكتب المصاحف"، ولذا كان يُلقب بـ"المصاحفي" كما نجد عند الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتاب لسان الميزان.
كما أن معاصره مساوِر بن سوار بن عبد الحميد الكوفي كان يعرف بـ"مساور الوراق"، حسبما في ترجمته عند الإمام علاء الدين مُغْلطاي بن قليج في كتاب إكمال تهذيب الكمال، وقد وصفه بأنه "من أصحاب الحديث، روى عن صدر من التابعين، روى عنه وجوه أصحاب الحديث".
ومع أواسط القرن الثاني الهجري الثامن الميلادي؛ انضم إلى نسخ القرآن جمع الحديث النبوي، وتوثيق فتاوى الصحابة والتابعين، وتدوين لغة العرب وأشعارها؛ فظهرت "مصنفات" في شتى العلوم، ومن أوائل تلك المؤلفات "الموطأ" للإمام مالك بن أنس، و"الرسالة" للإمام الشافعي، و"المبسوط" للإمام محمد بن الحسن الشيباني، و"الكتاب" في النحو لسيبويْه الفارسي، وقاموس "العين" للخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي، و"مختارات" من أشعار العرب مثل "المفضليات" و"الأصمعيات".
وأدت كثرة طلاب العلم وازدياد انشغال العلماء بإقبالهم على التأليف إلى اتخاذ بعض الأئمة "ورّاقاً" أو "كاتباً" خاصا به، كما اتخذ كل شاعر "راوية" لديوانه؛ فكان مثلا حبيب بن أبي حبيب المدني وراقا للإمام مالك، فاشتهر بـ"كاتب مالك" وبأنه "كان يقرأ الموطأ للناس على مالك في بعض الأوقات"؛ وفقا لابن أيْبَك الصفدي في كتاب الوافي بالوفيات. وعُرف محمد بن سعد بأنه "كاتب الواقدي" المؤرخ.
وقد انتشرت لاحقا هذه العادة حتى عمّت جميعَ طبقات العلماء والأدباء بل وحتى الخلفاء والأمراء، فصار مألوفا لدى أحدهم اعتماد وراقِين محددين كما يعتمد المؤلفون الكبار في عصرنا ناشرا معينا لطباعة كتبهم.