و الأخيرة

رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

هناك صفات متعددة يتصف بها رجل السياسة ، خاصة السياسة الخارجية، صفات الدبلوماسى الذى يعد الصورة الأرقى التي يمكن أن تقدمها اى دولة في تعاملها مع غيرها من الدول ، فهو الاكثر تعبيراً عن دولته: تاريخها و سیاستها، انجازاتها و غاياتها وهو الأقدر على فهم الاحوال الدولية وتأثيرها في القضايا التي تهم العالم وتؤثر على العلاقات بين بلده والبلد الذي أرسل سفيرا إليه، وهو يتصف بالفهم التاريخي والنظريات السياسية وحينما يضاف إلى ذلك الفكر والفلسفة يكون مثالاً لما حدثنا عنه أفلاطون حول السياسي الفيلسوف.
ومن حسن الطالع أن يكون العديد ممن عملوا سفراء للمغرب الشقيق في مصر من المثقفين المفكرين الفلاسفة، الذين تفخر بهم الثقافة العربية بمعناها الاوسع والفكر العربي المعاصر بمعناه الدقيق. فقد عاش بيننا المفكر المغربي الكبير عبد الله العروي في الستينيات مستشاراً تفاقياً فترة التحرر والاستقلال العربي وفي مصر انجز عمله المهم " الأيديولوجيا العربية المعاصرة " وكثير من المثقفين يذكرون أعماله المتعددة حول مفهوم الحرية ومفهوم الدولة ومفهوم التاريخ وهي الكتب التي تؤسس للثقافة والفكر العربي المعاصر، وهناك أيضاً المفكر المغربي صاحب " الخطاب التاريخي " و الدولة الوطنية والاصلاحية العربية وغيرها على أو مليل الذي درس فى مصر في بداية الستينيات في صحبة كثير من اساتذتنا وعين سفيرًا في مصر للمغرب منذ حوالى عقدين من الزمان وكان له حضوره الكبير فى مصر بين الساسة والمثقفين. 

السياسة عند الغزالي

وهذه الأمر هو ما يحدث الآن مع السفير المغربي الجديد حميد وايت علي، الذي كان بيننا من ثلاثة عقود والتحق بقسم الفلسفة جامعة القاهرة ليعد أطروحته الاكاديمية حول "السياسة عند الغزالي " وكان ذلك مع استاذنا الدكتور يحيى هويدى وزميلتنا الدكتورة زينب الخضيري تجربة علمية انسانية عشتها في هذه الفترة ، وهي تجربة تؤكد مع ما سبق أن ذكرته عن عمق العلاقات الثقافية والاخوية بين مصر والمغرب، تجربة لم تتح لى الفرصة من قبل للحديث عنها  وقد زرت المغرب مرارًا  وجاء الصديق والزميل السفير الحالي إلى مصر من قبل منتشراً ثقافياً ومن هنا ونظراً لأهمية هذه التجربة في بيان دور الثقافة والفكر والفلسفة في العلاقات بين الأمم والشعوب ذات العمق التاريخي والثقافى اتوقف في هذا المقال للحديث عنها ربما تفيد في روية أشكاليات الواقع العربى الحالي و في التأكيد على ما يمكن ان يسهم به الفكر والثقافة فى تأسيس أعمق للعلاقات السياسية استرشاداً بقول زكي نجيب محمود " العروبة ثقافة ".

الفلسفة بين مصر والمغرب

كان معالي السفير حين كان طالبًا دائم التواجد في مصر أثناء دراسته علي العكس من العديد من الطلاب العرب الذين يدرسون بالقاهرة كان كثير الحضور إلى قسم الفلسفة يدرس ويناقش يتحدث كثيراً جداً عن الفلسفة في المغرب والتي كانت مزدهرة للغاية في هذا الحين وحتى الأن، يحدثنا عن تيارات الفلسفة واعلامها فى المغرب من نعرفهم وكذلك الجيل الجديد في الجامعات المغربية ، كان يستحصر كتبهم الجديدة التي يصعب تواجدها في القاهرة ، يقدمها للباحثين فى مصر، لا يكف عن الحديث عن الفلسفة فى المغرب بتعمق واعتزاز ممن يجتمع حوله كل من يريد ان يستزيد وكنت بدورى احدثه عن الفلسفة في مصر وبداياتها وأعلامها  والحقيقة ان هناك مهمة كانت مصدر للأهتمام المشترك بيننا تتعلق بدور عدد من الاساتذة المصرين ممن قاموا بالتدريس فى المغرب ، أشير إلى عدد منهم لبيان أهمية هؤلاء الاساتذة بالنسبة للاجيال الأولى من فلاسفة المغرب والأهم هو عناية الاساتذة فى المغرب بالاحتفاء بهم و با عمالهم ، ربما اكثر مما فعل الاساتذة فى مصر وهم على التوالي : على سامى النشار ونجيب بلدى وحسن حنفى، ونحن لا نزال تتذكر العمل المشترك " حوار المشرق والمغرب " بين حسن حنفى ومحمد عابد الجابري كما نتذكر الكتاب التذكاري الذي اصدره اساتذه المغرب عن استاذهم الفيلسوف، الذي للأسف لا نذكره في مصر رغم حضوره الفلسفي الكبير وهو نجيب بلدى: لم تتذكره نحن واحتفى به في المغرب الاحتفاء اللائق به.

التعاون الثقافي العربي

ذكرت ما كان يقوم به حينها في زمن دراسته بالجامعة الأم في مصر -سفير المغرب الحالي وهو عمل ليس رسميًا بل مهمة ثقافية فكرية أبان اعداده للحصول على اطروحته للماجستير، حيث قام بدور السفير الثقافي والفكري للفلسفة المغربية، لكن هذه المهمة تمثل في الحقيقة نصف الجهد الذي قام به، يكتمل هذا الجهد بالتجربة التي عشتها بنفسي فى زيارتى للمغرب والتقائي. به ووجدت الدور الذي يقوم به للثقافة والفلسفة في مصر بين الاساتذة في المغرب يحدثهم عن جهود المفكرين والمنظرين في مصر وكتاباتهم وأهم ما يطرحونه من آراء وانا أصغى إليه باهتمام متذكرًا حديثه المستمر في القاهرة عن الفلسفة فى المغرب، الذى يقابله حديثه المستمر في المغرب عن الفلسفة في مصر وكأنه يجسد الجهود الثقافية المصرية وهو ما كان يدر که جيداً كما فيما اكد عليه حين التفت إلى والابتسامة تعلو وجهي ويقول : " حين اكون فى مصرا تحدث عن المغرب وانا ها هنا بالمغرب اتحدث دائماً عن مصر"، كان يزرع او يرعى بذور التعاون الثقافي العربي منذ نهاية الثمانيات سفيراً للثقافة والفكر العربي .

الفلسفة المغربية والمصرية المشتركة

اكدت وعمقت اللقاءات والحوارات الدائمة في مصر والمغرب مع سفير المغرب الدبلوماسى الثقافى معرفتى بأجيال متعددة من الفلاسفة والاساتذة المغاربة مثل الدكتور بنشريفة رئيس الخزانة الحسينية والدكتور محمد عزيز الحبابي عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة ورائد الفلسفة في المغرب ، الذى شارك كل من المصرى محمود قاسم عمید دار العلوم والسوري بديع الكسم استاذ الفلسفة بجامعة دمشق في تعريب الفلسفة في الجزائر فترة الستينات بعد الاستقلال فى الجامعات الجزائرية تأكيداً لعروبتها. تعرفت على الحبابي منذ 1975 مثلما تعرفت على كل من محمد عابد الجابري حيث يأتي إلى مصر و يلتقى صنوه حسن حنفي فى القاهرة ونجلس معاً في حديقة غرناطة في مصر الجديدة مثلما التقيت في مصر مع طه عبد الرحمن. الوجه الاكثر حضوراً اليوم والذى ما زلت احتفظ بكتبه الاولى التى وصلتني من المغرب وجاء طه عبد الرحمن إلى قسم الفلسفة بالآداب القاهرة، استمعنا إليه وتحاورنا معه وتكررت لقاءاتنا به في السودان والاردن في العديد من الملتقيات الفلسفية بالنسبة للجيل الحاضر في الفلسفة المغربية من تلاميذ الحبابي التقيت مجموعة التقيت ممن حضروا . لقاء الجمعية الفلسفية الافرواسيوية التي أسسها مراد وهبه وكان اللقاء الاول بمبنى جامعة الدول العربية و حضره" أير" الفيلسوف الانجليزي الكبير والذي كان الحبابي نداً له في العديد من المواقف. وعائلا منذ الحياى لتكريمه وترشيحه الجائزة نوبل وشاركت فى ذلك بدراسة كان يعتز بها عنوانها " الكوجيتو الابداعي عند الحبابي" .

الفلسفة والثقافة

 كان هؤلاء الذين حضروا معه وهم الآن اساتذة الاساتذة فى المغرب ؛ على ما اذكر كمال عبد اللطيف ومحمد وقيدي ومحمد المصباحى وعبد السلام بنعبد العالي وارجو المعذرة في الذاكرة فهناك نصف قرن على هذا اللقاء تعددت لقاءاتنا مع هذا الجيل فى المغرب والقاهرة وعمان وبيروت يضاف إليهم عدد من الوجوه البارزة اليوم فى العالم العربي وخارجه مثل اسماعيل المصدق ومحمد الاشهب و نذكر ايضاً ممن تواصلنا معهم مثل يوسف بن عدی  والحقيقة ان الدور الذى يقوم به أهل الفلسفة في المغرب ومثقفيه دور مهم للغاية في الحوار والتواصل ليس فقط داخل الحضارة والفكر الفلسفي الغربي المعاصر مثلما نجد لدى الكثيرين خاصة نور الدين أفايه وفريد الزاهي ، بل التواصل مع الثقافات المتنوعة داخل الحضارة الاسلامية كما يظهر بصورة واضحة لدى محمد المصباحي هذا التواصل والحوار والسعى إلى خطاب فلسفى عربى  جديد هو ما دفعني إلى الحديث عن المغرب الثقافى ، وهو حديث يطرح علينا سؤال " ان اوانه " هو دور الثقافة والفكر في تحديد توجهات الحاضر العربى، الذى يمر بالكثير من الأزمات  لغياب رؤية شاملة للأمة العربية ودورها في العالم المعاصر ونهوضها بالدور الذي يتفق وحضورها التاريخي وهي رؤية تقوم في  جوهرها على الفلسفة وهى الرؤية المتوارية فى الدوائر الثلاثة أو المهمش فى المثلث الذى يضم الدين الذي تمثل العمق التاريخي والحضاري والسياسة التي تمثل الحضور في العلاقات الدولية وما يحكمها من موازين القوي ويظل الفكر و ما يحمله من رؤي مستقبلية هو هذا الضلع الثالث الذي يقدم لنا خطابًا فلسفيًا يؤازر و يساعد خطاباتنا الدينية والسياسية وهي ما نقصده بكون العروبة ثقافة  تلك الدعوة التي تأكدت لدى ولدى عدد من المثقفين العرب وفي مقدمتهم الأساتذة في المغرب وصار التأكيد اكثر الحاجاً بعد حصار غزة وابادة أهلها، حيث نهض هؤلاء بعدما قام كبير فلاسفة الغرب اليوم يورجين هابرماس با صدار ما اسماه " بيان التضامن " الذي يؤيد حق اسرائيل  في الدفاع عن نفسها دون أية إشارة لما يلاقيه أهل غزة من قتل وإبادة وطرد وتشريد فاندفع مجموعة من اساتذة المغرب كانوا تلاميذ مخلصين لفلسفة هابرماس، كتبوا عنه وترجموا أعماله ، بجملة مهمة ليس فقط للرد على الفيلسوف اليهودي الألماني الذي تجاوز التسعين ونادي بأخلاق الحوار وابعد الفلسطيني منه؛ بل لتأكيد أهمية حضور الفلسفة العربية المعاصرة لمناقشة قضايانا الوطنية وهو ما ادعو إليه للتحول ل من صراع السيد والعبد إلى جدل الاعتراف المتبادل " وهي دعوة ليس لتأكيد ضرورة الانتقال من التلقى إلى اللقاء مع الغرب ، بل أيضاً وفي الاساس للتلقى واللقاء مع أنفسنا في عالمنا العربي ، وهو موضوع يحتاج إلى نقاش وحوار طويل خاصة فيما يتعلق بالعلاقات العربية العربية، بعضها مع بعض والتى تشترك في حدود مشتركة وما يمهد إلى ذلك هو الدور الذي يمكن ان تنهض به الفلسفة كما ظهرت في تلك التجربة المتميرة للسفير الذى توحدت فيه الدبلوماسيه مع الفلسفة، معبرًا عن المغرب الثقافى مما يجعلنا نأمل في الدور الذي يمكن أن يقدمه الفكر والثقافة للأمة العربية .

تم نسخ الرابط