الأولى و الأخيرة

رواية الخاتم الملعون
رواية الخاتم الملعون

في مهرجان للمسرح التجريبي قبل عشر سنوات أو يزيد، كان هناك عرضٌ في غاية الغرابة، قلب موازين المسرح في مخيلتي وقتها. 
عندما حل موعد رفع الستار وبدء العرض، ساد الهرج خشبة المسرح وانتشر العمال والمخرج والفنيون وسط الممثلين الذين وقفوا يراجعون النص مع المؤلف، بينما وقف ممثلون آخرون يستكملون ارتداء ملابسهم في صورة بدت شديدة الفوضوية.
جلسنا كجمهور نتابع ونستمع إلى حوار المخرج مع الفنيين والعمال بضبط الإضاءة وأجهزة الصوت وقطع الأثاث علي خشبة المسرح.
وبعد عشرين دقيقة تقريبا من هذا المشهد الدائر بحواراته العبثية، أبلغ المخرج الممثلين الواقفين وسط هذه الصورة بأن خشبة المسرح جاهزة لبداية الفصل الثاني من المسرحية ... (؟!
نعم لقد كان هذا المشهد بكل تفاصيله الارتجالية هو الفصل الأول من المسرحية المعروضة أمامنا كجمهور، وأمام لجنة تحكيم تضم عددًا من الفنانين والمخرجين والأكاديمين من أساتذة المسرح.
كنت أسأل نفسي وأنا أتابع هذا الفصل العشوائي، ماذا لو أن واحدًا من أساتذة المسرح؛ مثل زكي طليمات أو يوسف وهبي أو حتي فؤاد المهندس ومحمد صبحي، من بين لجنة التحكيم التي تتابع العرض معنا الآن،  تخيلت أحدهم بالفعل وهو يغادر المسرح سريعًا إلي أقرب قسم شرطة ليحرر محضرًا ضد هذه الفرقة المسرحية بتهمة إهانة الفن وازدراء المسرح.
تذكرت هذا العرض وتلك المسرحية، وحلم اليقظة الذى انحدر من مخيلتي حينها باقتحام قوات الأمن للمسرح لوقف هذه الجريمة في حق الفن، وأنا اقرأ الجزء الأول من رواية "الخاتم الملعون" للأديب الشاب أحمد منصور هيبة، الصادرة عن دار المشرق العربي للنشر والتوزيع. 
رواية تخالف كل ما أعرفه عن فن الرواية وتغاير كل ما هو سائد من قواعد القَصص التي عشنا معها سنوات طويلة من التقديس والتقدير.

 


 تنبهت سريعًا إلي أن أحمد منصور ينتمي إلي جيل متمرد يصر علي "هز" ثوابتنا باستمرار، في محاولة راسخة منه لإنتاج كل ما هو مغاير ليس فقط في عالم الفن والأدب وإنما في مختلف نواحي الحياة.
جيل يغني ويعزف ويكتب الشعر والقصة بقواعد مختلفة، تساير تجربته مع مواقع التواصل الاجتماعي التي تعتمد علي الومضة والصورة، والتي تحتم عليه أن يلخصها في عبارة قصيرة، وتستوجب منه في بعض الأوقات التعبير عن فكرته بـ ١٤٠ حرف فقط.
نحن أمام جيل جديد له لغته وأسلوبه ومفرداته وأدواته، قادر علي فرض نفسه في مختلف الميادين، بما فيها ميدان الأدب، وإزاحة المألوف حتي وإن كان نواميسًا للفن والإبداع.
رواية الخاتم الملعون لأحمد منصور التي كتبها باللغة العامية وتدور حول عالم الجن والعفاريت، جاءت دفقة واحدة خلت من التراكيب اللغوية والصور، لكنها تجبرك علي الوقوف أمام نص تحققت فيه عناصر السرد والتشويق والإثارة والحبكة الروائية.
ويبدو واضحًا أن المشكلة الحقيقية لجيلنا، أننا أصبحنا "دقة قديمة"، وأن أحمد منصور وجيله قادرون علي التغيير بوسائلهم الحديثة وفكرهم المتجدد، وفرض هذا التغيير الذي فرضه من قبل أدباء وفنانون علي أجيال سابقة عليهم، أجيال تشبهنا تمامًا، عندما اعتبرت حركة التجديد في الأدب والفن هدم للثوابت.
إنها فكرة الصراع المتجدد بين القديم والحديث، تلك الفكرة القائمة على اختلاف الزمن وتبدل الأحوال، التى تؤدي بطبيعة الحال إلى خلق الفجوة بين الأجيال واختلاف الذائقة.
جملة القول، إنه جيل المستقبل الذي لا نستطيع مخاصمته، كما لا نستطيع فرض ذائقتنا عليه، سيمضى في طريقه نحو التغيير حتى لو استدعينا له قوات الأمن مجتمعة وليس قسم الشرطة. 
 

تم نسخ الرابط