احتلت مدينة شرم الشيخ بجنوب سيناء في تسعينيات القرن الماضى مكانة بارزة وأهمية بالغة حيث كان هناك الرفاهية والهدوء ، حيث أولت مؤسسات الدولة آنذاك كل اهتمامها بالمدينة، المُستردة من الاحتلال الإسرائيلى عام 1982م؛ وقد اعتاد الرئيس الأسبق حسنى مبارك الإقامة بها وقضاء فصل الشتاء هناك.
ولقد كانت وسائل الإعلام تهتم بإبراز جمال المدينة وفخامة فنادقها ونظافة شواطئها وسواحلها، فى فقرات التلفاز الإعلانية وبرامجه الإعلامية وأعماله الدرامية.
وهذا ما رأيتُه بالأمس، واعتدتٌ على مشاهدته، منذ خمسة عشر يومًا تقريبًا بالتلفاز المصرى، فكلما تنقلتُ بين قنواته، أجد برامج أو تغطيات إعلامية وإعلانية عن مدينة العلمين، واستعراض فخامة مبانيها وأبراجها الفارهة، التي تطال السماء، وشوارعها الفسيحة، والتى تجملتْ بالزروع والزهور والأرصفة الجيدة، وكذلك الاهتمام بإبراز ألوان المباني الزاهية الجاذبة، هذا فضلًا عن الشواطئ النظيفة الجميلة، والراسية في بعض منها يخوت كثيرة متراصة بجانب بعضها البعض، وتلميحات عن مسابقات فنية ورياضية، تُشير جميعها وتنبئ عما يجب أن يتوافر في روادها، من ثراء وقُدرة مالية، لا يقدر عليها غالبية الشعب المصرى، الذى صار همه في الليل قبل النهار، كيفية توفير طعامه في ظل ارتفاع أسعار السلع، ارتفاعات وزيادات لا تتوقف، في أسعار الأطعمة والمخبوزات ومشتقات البترول وكهرباء ومياه وملابس، وارتفاع في أسعار المواصلات العامة؛ من قطارات وأتوبيسات، وسيارات سرفيس وتاكسيات ومترو أنفاق ...إلخ.
ولقد جلبت مشاهد أبراج العلمين اليوم ذكريات تسعينيات القرن الماضى عن فنادق شرم الشيخ، ثم غاصت الذكريات وذهبت إلى الجمهورية الرومانية، في القرن الأول قبل الميلاد، حيث كانت روما عبارة عن مدينة مرمرية، فأينما ذهب الفرد وتجول ووقعتْ عينيه على شيء، إلا وكان الرخام والمرمر يغطيه؛ فالشوارع كانت مُغطاة بالحجارة، تُزين النوافير المرمرية تقاطعاتها، وعلى جانبى الطريق توجد المباني التي تُعبّر تصاميمها وألوانها وما حولها من بساتين عن ثراء وقُدرة ساكنيها المالية.
وفي هذه الفترة الزمنية، توصل الرومان إلى استخدام العجلات الخشبية في جر العربات ونقل الأشياء، اعتمادًا على الدواب أو أفراد من البشر، وبسبب سير تلك العربات على الحجارة التي تغطى شوارع روما، فقد صارت تُحدث ضجيجًا بالشوارع، الهادئة الجميلة، هذا فضلًا عن الضجيج الصادر عن صياح الناس، الذين ازدادت أعدادهم بالمدينة، عاصمة الجمهورية، طلبًا للسكن أو العمل فيها، ولقد ضجت بعض طبقات المجتمع، من هذا الضجيج المتزايد بروما، وأعلنت عدم قدرتها على التحمل ومداومة الإقامة بـ روما، كثيرة الضجيج، ومن ثم فلقد أصبح الابتعاد عنها لمدة يوم أو يومين ثم العودة لممارسة الحياة مطلبًا ضروريًا؛ ابتعاد بغرض الاسترخاء و الرفاهية والتمتع بالهدوء، ولتحقيق ذلك رأت طبقات رجال السلطة والمال الرومان الذهاب إلى أطراف روما والعيش بالريف الرومانى، والاستمتاع بهدوئه ومناظره الخلابة، ومن ثم فقد أنشأوا لأنفسهم هناك منازل ريفية بسيطة، قليلة الإمكانيات، وأطلقوا على هذه المنازل الريفية الصغيرة البسيطة أسم "فيللا villa".
الرفاهية القديمة والحديثة
وصار لكل صاحب سُلطة قضائية أو تشريعية أو حكومية أو حتى تاجر ثرى فيللا بسيطة صغيرة بالريف الرومانى، يذهب إليها طلبا للراحة والاسترخاء والاستمتاع و الرفاهية.
لقد حسدت الطبقات الثرية الرومانية طبقة الفقراء، على بساطة حياتهم ومنازلهم واستمتاعهم بالحياة، التي هم أنفسهم محرومون منها، فأرادوا مشاركتهم، فشيدوا منازل لهم على شاكلة منازل الفقراء، ووضعوا بها قطع أثاث بسيطة تفى للإقامة بهذه المنازل الريفية البسيطة لمدة يوم، أو يومين، كل عام أو شهر أو أسبوع، فابتعدوا في تلك المنازل وتخلوا عن رفاهية العيش وثراء الحياة، طلبًا للراحة والهدوء والاستمتاع.
لقد تشابهت منازل الأثرياء والفقراء الرومان في الريف الرومانى، فكلاهما يسكن منزلا بسيطًا صغيرًا اسمه فيللا، ولكن غرض كل منهما اختلف عن الأخر؛ فالأثرياء أرادوا منازلهم هكذا، من أجل الاسترخاء والاستجمام والاستمتاع، بينما الفقراء شيَّدوا منازلهم على هذا النحو من الفقر؛ لعدم قُدرتهم المادية.
و في الريف الرومانى، وعلى أطراف مدينة روما، كانت تتشابه المباني، فجميعها مبان ريفية بسيطة، يكتظ بعضها بسكانها يوميًا وعلى مدار الأسبوع والعام، بينما منازل أخرى يأتي إليها أصحابها يومًا أو يومين في الأسبوع أو الشهر أو العام، بغرض الراحة من ضجيج العاصمة روما.
لم يعد اليوم شبيها بالبارحة أبدا، فأثريا روما قديمًا غير أثرياء شرم الشيخ أو العلمين اليوم، ومنازل الاسترخاء والاستمتاع الرومانية قديمًا غير منازل شرم الشيخ أو العلمين اليوم، فهناك بون شاسع بين فلل الرومان الأثرياء قديمًا وفنادق وأبراج الأثرياء اليوم. لقد أظهرت منازل أثرياء الرومان البون بين الرغبة والإجبار؛ فأثرياء روما قديمًا كانوا يتحلون بالقدرة على التخلي والاستمتاع به، مع رغبتهم في ممارسة الحياة البسيطة والسكن في منازل ريفية بسيطة صغيرة، بينما فنادق وأبراج أثرياء اليوم أظهرت إجبارًا وعدم القدرة على التخلى؛ حيث إن أثرياء اليوم، سواء بشرم الشيخ أو العلمين، يمارسون حياتهم برفاهية وثراء، غير قادرين على التخلي عن ثرائهم و الرفاهية حياتهم، فأينما ذهبوا ذهب معهم ثرائهم، وكأنهم مُجبرون على هذا الثراء الذى لا يمكن التخلي عنه.
أ.د./ صلاح السيد عبد الحى
أستاذ الحضارة الأوربية القديمة بكلية الآداب
ومدير مركز حضارات البحر المتوسط